26 ديسمبر 2024

يمثل فرنك الاتحاد المالي الإفريقي رمزاً دائماً لنفوذ فرنسا الاستعماري الجديد في إفريقيا.

أثارت التحركات السياسية في الغرب الإفريقي تساؤلات حول مستقبل علاقات فرنسا مع مستعمراتها القديمة، فالانسحاب العسكري الفرنسي من النيجر أعطى صورة باهتة لعلاقة استعمارية قديمة؛ مازالت محكومة بواقع اقتصادي يتحكم به الفرنك الفرنسي، وعملية تصفية مصالح الشركات الأجنبية في معظم دول الساحل والوسط الإفريقي تبقى خاضعة لسياسات نقدية حددتها “منطقة الفرنك” منذ أواسط القرن الماضي.

عملياً فإن إنشاء الفرنك الإفريقي عام 1945 كان استراتيجية تحكم واضحة في الموارد لدول هذه المنطقة، وتم استخدامه من قبل 14 دولة إفريقية وهي بنين وبوركينا فاسو وغينيا بيساو وساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال وتوغو والكاميرون وتشاد، وغينيا الاستوائية، والجابون، وجمهورية الكونغو، وكانت هذه الدول مقسمة إلى منطقتين: الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (WAEMU) والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (CEMAC)، إلى جانب الفرنك القمري في اتحاد جزر القمر، ومبادئه الأربعة أساسية كونت آلية خاصة ضاغطة على عملية الإنتاج ابتداء من السعر الثابت مع الفرنك الفرنسي (ولاحقًا اليورو)، ومرورا بحرية حركة رأس المال وضمان قابلية التحويل غير المحدودة من قبل الخزانة الفرنسية والمركزية، وصولا إلى مركزية الحسابات في الخزينة الفرنسية؛ وهو ما شكل بمجمله حالة حفاظ على المستعمرات عبر النظام النقدي.

وبينما كان ظاهر الإجراءات تسهيل الاستقرار والتكامل الاقتصاديين، ظهرت حقيقة إدامة الاعتماد الاقتصادي لدول إفريقيا على فرنسا، مما يحد من السيادة النقدية للدول الأعضاء، ويتضح هذا الأمر بتدهور ميزانها التجاري من عجز قدره 2 مليار دولار أمريكي إلى 10 مليار دولار أمريكي على مدى عشر سنوات.

ويعكس هذا التدهور القيود الاقتصادية الهيكلية التي تفرضها العلاقات الاستعمارية الجديدة، مما يحد من قدرة هذه الدول على تنويع اقتصاداتها وتقليل الاعتماد على تصدير المواد الخام.

من جانب آخر ارتفع الاعتماد على فرنسا في إدارة الاحتياطيات الأجنبية من 50% إلى 65% في نفس الفترة، والترتيب المالي الهادف إلى الاستقرار ظاهرياً، يقيد هذه البلدان مما يحد من استقلالها فيما يتعلق بالسياسات النقدية والاستراتيجيات الاقتصادية، ويمثل الرسم البياني التالي نقاط الضعف الاقتصادية حيث يضع الميزان التجاري في مقاربة مع النسبة المتزايدة من الاحتياطيات الأجنبية التي تحتفظ بها فرنسا:

وتطرح البيانات السابقة شكل المأزق الذي تواجهه دول منطقة الفرنك، والحاجة الملحة لتفكيك الهياكل الاستعمارية الجديدة التي تديم التبعية والاستغلال، فموجات المقاومة المتنامية ضد الفرنك الإفريقي والنفوذ الفرنسي الأوسع تشير إلى تحول محوري، فهي تحمل محاولات لصياغة مسار جديد نحو الاستقلال الاقتصادي وتقرير المصير، فالفرنك الإفريقي يبقى موضوع خلاف ومقاومة داخل الدول الأعضاء، حيث يعيق تنميتها الاقتصادية وعلى الأخص مسألة سعر الصرف الثابت، حيث جعل صادراتها أكثر تكلفة ووارداتها أرخص، وبالتالي إعاقة الصناعة المحلية وإدامة الاختلالات التجارية لصالح فرنسا.

واستفادت فرنسا من امتياز الوصول إلى الموارد الطبيعية، واتفاقيات التجارة التفضيلية، ومناخ الاستثمار داخل منطقة “الفرنك”، ولكن الاتجاه الذي تبلور مؤخرا لاعتماد العملة البيئية من قبل الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، (ECOWAS) يوضح التحرك نحو الاستقلال الاقتصادي عن فرنك الاتحاد المالي الإفريقي، كما أدى تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا، مدفوعة بتصورات الاستعمار الجديد والاستغلال الاقتصادي، إلى زيادة الاحتكاك السياسي، وهو ما جعل موقف فرنسا الاستراتيجي في مأزق بسبب النفوذ المتزايد للقوى المحلية لمنطقة الفرنك إضافة للقوى العالمية الأخرى، مثل الصين وروسيا، وتتجلى فقدان النفوذ السياسي في تقليص القواعد العسكرية الفرنسية والتشكيك في الترتيبات الأمنية.

تأثرت العلاقات الاجتماعية والثقافية بين فرنسا ومستعمراتها السابقة بالمشهد السياسي والاقتصادي المتطور، وتعكس التوترات السياسية في دول منطقة الفرنك والانقسام فيه والرأي العام علاقة معقدة توازن بين التاريخ المشترك والرغبة في إعادة تعريف الشراكة على أساس المساواة والاحترام المتبادل، وحاولت فرنسا تكييف استراتيجيتها مع المستجدات السياسية، وقدمت مبادرات لتنشيط العلاقات الاقتصادية ومعالجة المخاوف الأمنية المتبادلة، ولكن تحقيق فعالية المبادرات يبقى في مجال الشك، وتحتاج فرنسا لتبني نموذج شراكة يحترم سيادة الدول الإفريقية وطموحاتها الاقتصادية ويتضمن ذلك إعادة النظر في سياساتها مع الاعتراف بالتأسيس الجديد لسيادة دول منطقة الفرنك.

بقلم مازن بلال

أين مبعوث الأمم المتحدة لليبيا؟

اقرأ المزيد