21 نوفمبر 2024

تثير العلاقة بين ليبيا وبلجيكا مسألة أساسية في طبيعة رسم الدولة الليبية لعلاقاتها الخارجية، فانتهاء نظام سياسي وبداية آخر تحمل تعقيدات قانونية وتضع تحديات خاصة ونزاعات مالية طويلة الأمد.

تطرح مطالبات الأمير البلجيكي لوران بأموال تتعلق بمشروع من عهد القذافي، والاختفاء الغامض للأصول الليبية المجمدة في بلجيكا، قضية مزدوجة في علاقات ليبيا الخارجية، فرغم عدم الترابط بين الحدثين لكنهما يقدمان نموذجا عن التعقيدات التي خلفتها الأزمة الليبية، والانعكاسات التي تحدث نتيجة طبيعة السياسة التي لا تملك قوة في المطالبة بالحقوق الليبية المرهونة في الخارج.

العلاقات البلجيكية – الليبية

خلال نظام الرئيس الراحل معمر القذافي تم عقد العديد من الصفقات الدولية، بما في ذلك مشروع شارك فيه الأمير البلجيكي لوران، ففي عام 2008، أبرم الأمير لوران عقداً مع الحكومة الليبية لتنفيذ مشروع واسع النطاق لإعادة تشجير الصحراء، إلا أن الحرب الليبية في عام 2011 أدت إلى انهيار حكومة القذافي وإنهاء المشروع، ومنذ ذلك الحين، يسعى الأمير للحصول على تعويضات، مدعياً ​​أن ليبيا مدينة له مقابل العمل غير المكتمل.

وتبدو المعركة القانونية التي يخوضها الأمير لوران محرجة للجميع فهي لا تقتصر على مبالغ ضخمة تتراوح ما بين 50 إلى 100 مليون يورو، بل ترتبط أيضا بصورة المشاريع التي كانت تقوم بها الحكومة الليبية من جهة، وبالالتزامات المالية التي تعتبرها ليبيا منتهية بحكم سقوط النظام السابق، فالأمير البلجيكي حصل على 14 حكماً قانونياً لصالحه في ولايات قضائية مختلفة، لكن هذه الأحكام لا تنظر إليها الحكومة الليبية بعين الاعتبار، فبغض النظر عن مصداقية ادعاء الأمير البلجيكي، إلى أن الأمر الأساسي هو أن الجهات الليبية لم تكن متابعة للتفاصيل القضائية نتيجة موقفها المسبق من الديون خلال المرحلة السابقة.

الصورة الثانية للعلاقات بين ليبيا وبلجيكا تظهر أيضا في عدم المتابعات القضائية لتجميد المليارات من أصول الدولة الليبية على مستوى العالم، بما في ذلك في بلجيكا، لمنع الحكومة الجديدة أو الفصائل الأخرى من إساءة استخدام الأموال، إلا أن جزءاً من هذه الأصول المجمدة يبدو أنه اختفى في ظل ظروف غير واضحة، ما أثار المخاوف بشأن إدارة بلجيكا للثروة الليبية، فبلجيكا وفق ما يجري معنية بأمرين رئيسيين: مزاعم الأمير والأموال الليبية المفقودة.

عمليا فإن تفاصيل قضية الأمير لوران تتجاوز المسؤولية الليبية، فهو يتهم حكومته بعدم ممارسة الضغوط الدبلوماسية الكافية على ليبيا لتسوية المسألة، بينما تقدم المؤشرات الخاصة بالحكومة البلجيكية نظرة خاصة بالنسبة لهذه القضية، فهي من جانب ستفتح حسابات الأصول الليبية في بلجيكا بكل ما تحمله من تعقيدات، ومن جانب آخر فإنها ستطرح الاتجاه الدبلوماسي الأوسع في قضية تسوية النزاعات المالية ما بعد الثورة، حيث تحاول الحكومات النأي بنفسها عن الالتزامات المالية للأنظمة السابقة.

اختفاء الأصول الليبية في بلجيكا

خشية الحكومة البلجيكية من متابعة قضية الأمير لوران تظهر كنتيجة لفضيحة اكتشاف اختفاء مليارات من الأصول الليبية المجمدة في البنوك البلجيكية، حيث كشف تحقيق بلجيكي عن أن الفائدة المتراكمة على هذه الأموال المجمدة تم سحبها بشكل غير قانوني بين عامي 2012 و2017، وبلغت قيمتها ما يقدر بنحو 2.3 مليار يورو، وهو ما أثار تساؤلات حول نزاهة المؤسسات المالية البلجيكية والافتقار إلى الرقابة على الأصول الليبية، ورغم أن السلطات البلجيكية أطلقت تحقيقات في اختفاء هذه الأموال، فإن الضرر الذي لحق بسمعة بلجيكا حدث بالفعل، ولا تمثل الأصول المفقودة خسارة مالية كبيرة لليبيا فحسب، بل إنها تشكل أيضا انتهاكا للاتفاقيات الدولية التي وضعت هذه الأصول تحت الحماية.

وتترابط قضية الأمير لوران مع مسألة الأموال الليبية المجمدة في الطبيعة القضائية، فمن رؤية قانونية مرت كلتا القضيتين عبر محاكم متعددة، وأيدت العديد من المحاكم مطالبات الأمير لوران، ومع ذلك لا يزال غير مدفوع الأجر بسبب عدم الاستقرار السياسي في ليبيا وعدم رغبتها في الوفاء بالعقود التي أبرمها النظام السابق، وفي الوقت نفسه، أطلقت ليبيا طعونا قانونية في بلجيكا وغيرها من المنتديات الدولية لاستعادة أصولها المجمدة، ولكن نتائجها كانت محدودة.

وأظهرت الردود الخاصة في القضيتين توترا دبلوماسيا واضحا، فهيئة الاستثمار الليبية، التي تدير الثروة السيادية الليبية، كانت صريحة في معارضة مطالبات الأمير لوران، وفي عام 2024 اتهمت الأمير بمحاولة الاستيلاء على أصول لا تخصه، وأكدت أن العقد الذي أبرم في عهد القذافي لا علاقة له بهيئة الاستثمار الليبية، من جانب آخر اتهمت ليبيا أيضا الحكومة البلجيكية بالتساهل في مع الأصول المجمدة، واعتبرتها فاشلة في منع سرقة الثروة الليبية.

تتعرض العلاقة بين بلجيكا وليبيا لاختبار شديد بسبب القضايا المالية العالقة، وتعكس مطالب الأمير لوران بالتعويض، إلى جانب اختفاء الأصول الليبية المجمدة، التحديات الأوسع نطاقاً للتعامل مع الإرث المالي، ففي حين ترفض ليبيا سداد ديون عهد القذافي، تواجه بلجيكا تساؤلات حول دورها في سوء الإدارة والاستغلال المحتمل للثروة الليبية، فالليبيون يرون حتى في مطالبة الأمير نوعا من محاولة الاستيلاء على ثروة ليبية تبدو مرهونة لنظام مالي يخضع لاعتبارات سياسية وليست قانونية.

بقلم مازن بلال

وزير الخارجية التركي يبحث في طرابلس التسوية السياسية في ليبيا

اقرأ المزيد