27 ديسمبر 2024

كشفت الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل مساحة العلاقات المعقدة بين تل أبيب والقارة الإفريقية، ووضعت الجهود الإسرائيلية طوال عقود على محك المواقف الإفريقية المتبدلة.

ويفتح هذا الحدث الباب أمام تعقيدات عديدة تواجه العلاقة بين تل أبيب وإفريقيا في ظل محاولة إسرائيل بناء شراكتين: أمنية واقتصادية مع القارة السمراء، خصوصاً بعد أن دفعت تداعيات الربيع العربي والنفوذ المتزايد لإيران في إفريقيا إسرائيل إلى إعادة تقييم موقفها، وأدخلتها مجال منافسة ضمن سعيها لبناء تحالفات استراتيجية. ورغم أن خطوة جنوب إفريقيا تعكس شكلا من التوتر المستجد بسبب أحداث غزة، لكن التعامل الإسرائيلي مع الدول الإفريقية يبدو أعمق من الحدث الحالي.

الارتباطات الاقتصادية

تحظى إفريقيا باهتمام بالغ إسرائيلي، عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اجتماع قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفرريقيا “إيكواس” في يونيو 2017، عندما كشف عن اهتمام تل أبيب المتزايد ببناء جسور متعددة مع القارة، سواء على المستوى الثنائي أو على مستوى المؤسسات الجماعية، حيث تميز دخول إسرائيل إلى السوق الإفريقية باستثمارات كبيرة في قطاعات التكنولوجيا والزراعة والطاقة المتجددة، كذلك تكشف محاولة إسرائيل الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، إلى جانب الجهود الرامية إلى إنشاء بعثات دبلوماسية جديدة، عن استراتيجية أوسع نطاقاً للحصول على موطئ قدم، وهي جهود تواجهها تحديات وعقبات عديدة، بعضها يرتبط بسياستها المثيرة للجدل في الشرق الأوسط.

استطاعت إسرائيل التعامل مع الاقتصاد الإفريقي بأسواقه الناشئة مثل نيجيريا وكينيا وجنوب إفريقيا، وكانت استثماراتها متنوعة ولكنها ركزت على قطاعات الطاقة الخضراء والزراعة والتكنولوجيا الفائقة، حيث التزمت شركة “إنيرجيا جلوبال” باستثمار ما يصل إلى مليار دولار في مشاريع الطاقة المتجددة في 15 دولة إفريقية، وافتتحت شركة “جيجاوات جلوبال” أول محطة للطاقة الشمسية في بوروندي، مما أدى إلى تعزيز توليد الطاقة في البلاد بنسبة 10٪.

المستوى الأمني للعلاقات

يعود التدخل الأمني الإسرائيلي في أزمات إفريقيا إلى أوائل الثمانينيات، وذلك خلال فترة إعادة الاتصالات الحذرة بين إسرائيل والعديد من الدول الإفريقية، حيث شهدت المراحل السابقة تفاوتا في مستوى التعاون مع الدول الإفريقية المستقلة حديثا وفي ظل الانقسام الذي فرضته الحرب الباردة، ولكن بداية خفوت الصدام بين الشرق والغرب أواسط الثمانينات بدأت إسرائيل بتكريس استراتيجيتها في تجاوز عزلتها الدولية وتعزيز مصالحها الأمنية والاقتصادية، وكانت القارة الإفريقية مسرحاً هاماً تعاملت معه عبر تكتيكات “المدربين الخاصين”، وهم الأفراد الذين تؤكد أدوارهم على النهج المتعدد الأوجه الذي تتبعه إسرائيل في ارتباطاتها الإفريقية.

هؤلاء المدربون في الغالب من المحاربين القدامى في قطاعي الجيش والاستخبارات الإسرائيليين، واستطاعوا بفاعلية بناء شبكة علاقات غير مكشوفة ساعدت لاحقا في تطوير الدبلوماسية الإسرائيلية، حيث قدموا الخبرة في مكافحة الإرهاب والاستخبارات والتكتيكات العسكرية للدول الإفريقية في صراعاتها الداخلية وتحدياتها الأمنية، وسعت إسرائيل عبر هذه الارتباطات إلى حشد الدعم الدبلوماسي، وفتح أسواق جديدة لقطاعي الدفاع والتكنولوجيا.

ربما كانت الإشارة الأولى لهذا التدخل عبر عملية “عنتيبي” ب 4 يوليو 1976 في أوغندا لتحرير محتجزين إسرائيليين من قبل عناصر من منظمة التحرير، إذ سلطت هذه العملية الضوء على القدرات العسكرية، وفتحت الباب أمام شركات الأمن الإسرائيلية الخاصة مثل “مير جروب” و”بلاك كيوب” لتلعب أدواراً محورية في الأمن، وتعمق دورها بعد عام 2000 بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبدء ما يسمى “الحرب على الإرهاب”.

وتؤكد الجولات الدبلوماسية، مثل رحلة أفيغادور ليبرمان إلى إفريقيا في عام 2009، على رغبة إسرائيلية في تعميق العلاقات، وفتح الدعم أمام الدول الإفريقية لمواجهة تحديات تتراوح بين الأمن والزراعة، وفي الوقت نفسه، فإن التعاون العسكري والاستخباراتي، بما في ذلك تعيين الملحقين العسكريين وتعزيز العلاقات الأمنية؛ يوضح أن الأزمات السياسية التي تطفو الآن على سطح العلاقات لم تؤثر كثيرا كونها تتعامل مع البنى التحتية سواء كانت اقتصادية أو عسكرية- أمنية.

ربما لا تعيش العلاقات بين تل أبيب والدول الإفريقية اليوم مرحلة انتعاش، لكن التناقضات والخلافات كانت موجودة دائما، فهناك شبكة متنامية من العلاقات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية مع العديد من الدول الإفريقية، مدفوعة بالمصالح المشتركة في الأمن والتنمية، وعلى الجانب الآخر هناك تحديات من داخل إفريقيا، حيث تظهر وبشكل دائم تصورات عن إسرائيل بفعل الحدث السياسي والقضية الفلسطينية، وهو ما ظهر بوضوح في المحاولة الإسرائيلية الفاشلة للحصول على صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي عام 2021، بسبب المعارضة الناجمة عن تصرفات إسرائيل في غزة.

عودة إسرائيل إلى إفريقيا تبدو قصة متعددة الأوجه لأنها تواجه تقلبات سياسية مختلفة، لكنها تحمل معها مناورات استراتيجية، فالسعي إلى إقامة شراكات طويلة الأمد يعكس مساحة أوسع من التغيرات الآنية لتدخل في صلب العلاقات الدولية، والتعاون الأمني، والسعي المستمر للحصول على النفوذ والتحالفات.

بقلم نضال الخضري

“إيكواس”: مستعدون للتفاوض بعد إعلان بوركينا فاسو ومالي والنيجر عن قرار الانسحاب من المجموعة

اقرأ المزيد