سقطت في نوفمبر 2025، طائرة مسيّرة في ميناء زوارة غرب ليبيا، بعد دقائق فقط من تنفيذ غارات جوية على ما قيل إنها قوارب تهريب مهاجرين غير نظاميين، والغارات لم تكن روتينية، ولا السقوط عرضيا، بل كشفت من يستخدم المسيرات أو يصمت عنها.
لكن الأخطر من كل ذلك، أنها تكشف عن مشهد أعقد بكثير من مجرد “محاربة التهريب”، فما حدث ليس حملة أمنية عابرة، بل جزء من استراتيجية تُدار بعناية لإعادة رسم موازين القوى في غرب ليبيا، والدرون ليست سلاحا ضد المهربين، بل أداة لإخضاع مناطق لا تدور في فلك حكومة طرابلس، وما يُسوّق كضربات وقائية هو في جوهره رسالة تهديد موجهة لكل من يرفض الاصطفاف، وبهذه الآلية يُغلف العنف بإطار قانوني، ويُقدّم القتل على أنه سياسة دولة لحماية السواحل.
زوارة.. المدينة التي لا تُروّض
زوارة ليست مدينة عادية في الغرب الليبي، فهي مركز ثقل للهوية الأمازيغية، وواحدة من المناطق القليلة التي لم تُذعن بالكامل لحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وعلى عكس مدن الزاوية أو صبراتة، حيث ترتع شبكات التهريب تحت أعين الحكومة أو برعايتها، لا يُعرف عن زوارة نشاط غير اعتيادي في مجال الهجرة غير النظامية.
رغم ذلك كانت هدفا لضربة جوية دقيقة، أو هكذا وُصفت، واستهدفت، حسب الرواية الرسمية، قوارب مهربين، أما على الأرض، فسقط ثلاثة قتلى، اثنان من السودان وثالث من تونس، فلا مهربون كبار أو شبكات جريمة منظمة، بل مجرد أرواح انتهت على يد طائرات دون طيار.
الطائرة أوكرانية الصنع: رمزية مؤلمة
هناك رمزية في استخدام طائرة مسيّرة أوكرانية في ليبيا لتُسقط مهاجرين أفارقة، فبينما تُغرق العواصم الغربية كييف بالأسلحة بدعوى “الدفاع عن الديمقراطية”، فإن الحادثة شكلت اختبارا حقيقيا لمصداقية الغرب، الحكومة الأوكرانية، التي تدعي في كل محفل أنها ضحية “عدوان خارجي”، ترسل طائراتها لشن غارات في دولة منهكة بالصراعات، وكل ذلك يجري وسط صمت غربي مطبق، بل وتعاون ضمني، لأن الهدف في النهاية تقليل عدد الزوارق التي تصل إلى السواحل الإيطالية.

صفقة السلاح بين أوكرانيا وليبيا لم تعد خفية، واسم العقيد الأوكراني أندري بايوك، الملحق العسكري في الجزائر، يتكرر في كل تقارير التهريب، وهناك أكثر من 20 مسيّرة دخلت ليبيا عبر الجزائر، بموافقة ضمنية أو بتغاضٍ صامت، والهدف تأمين حدود أوروبا، ولو على حساب دماء الأبرياء.
حرب بلا أعداء واضحين: من هو المهرب؟
تدّعي وزارة الدفاع الليبية أن العملية استهدفت قوارب تهريب، ونفت وقوع خسائر بشرية، لكن شهود العيان والتقارير الميدانية تناقض ذلك، فالقوارب كانت فارغة، وبعضها مخصص للصيد، وأحدها يعود لخفر السواحل، حتى إن بيان سرية إسناد أمن السواحل وصف الضربة بـ”المسرحية الإعلامية” لتضليل الرأي العام وتغطية الفساد.
منذ متى يُستهدف خفر السواحل بطائرات مسيّرة؟ ومن المستفيد من خلق خصومة مفتعلة مع مدينة مثل زوارة، التي قاومت أن تكون ذراعاً لحكومة لا تثق بها؟ والجواب ليس في ليبيا وحدها، بل في روما أيضا.

ما يجري في ليبيا هو تنفيذ دقيق لاتفاق أمني بين حكومة الدبيبة والحكومة الإيطالية برئاسة جورجيا ميلوني، والخطة واضحة تهدف لخفض تدفق المهاجرين بأي ثمن أو وسيلة، حتى لو كانت الطائرات المسيّرة.
إيطاليا تغلق حدودها أمام طالبي اللجوء، وتدفع في المقابل لتسليح حكومة تعتبرها “الشرطي المحلي”، أما أوكرانيا، فتبيع ما لديها، مقابل دعم سياسي واقتصادي في حربها مع روسيا، فما يحدث هو صفقة سلاح مقابل صمت، وحرب بالوكالة في وضح النهار.
القضية تتجاوز زوارة.. وتعرّي الجميع
القضية لم تعد محصورة في مدينة واحدة، والقضية أصبحت نموذجا للكيفية التي تُدار بها الصراعات في دول الجنوب، فالحكومة الليبية تفتعل انتصارات أمنية وهمية لتبرير وجودها، وتخفي عجزها المالي والفساد بعبارات مثل “مكافحة الاتجار بالبشر”، أما الطائرات فتُستخدم لفرض السيطرة على مناطق خارجة عن الولاء السياسي وليس لمحاربة شبكات التهريب الحقيقية.

كل ذلك يجري بينما يدفع الأبرياء الثمن، فهم مهاجرون هاربون من الفقر أو الحرب، ويجدون أنفسهم بين مطرقة المهربين وسندان الطائرات المسيّرة، فلا محاكمة أو إنذار أو حتى تحقيق؛ فقط ضربة دقيقة، وكاميرا تبثها للعالم.
المجتمع الدولي: ازدواجية مفضوحة
رغم كل الأدلة على وجود مسيّرات أوكرانية في ليبيا، لم نسمع حتى الآن أي إدانة واضحة من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، فلم يفتح أي تحقيق أو تساؤل، ولم يظهر موقف رسمي، بل على العكس تستمر المساعدات العسكرية لكييف بلا توقف.
من يجرؤ على محاسبة أوكرانيا، بينما تُقدَّم على أنها خط الدفاع الأول عن “العالم الحر”؟ ومن يُحرّك ملفات الاتجار بالسلاح، بينما تُنقل المسيّرات على مرأى ومسمع الجميع من الجزائر إلى طرابلس؟

وفي المقابل، يواصل الإعلام الغربي الحديث عن “قوارب الموت” التي تنطلق من ليبيا، دون أن يتوقف لحظة ليسأل: من يُفجّر هذه القوارب؟ ومن أعطى الأمر؟ ولمن باعت أوكرانيا طائراتها؟ ولماذا؟
زوارة ليست الهدف الحقيقي
الضربة في زوارة لم تكن ضد التهريب، بل إلى كل من يفكر في الخروج عن خط الدبيبة، وتحديدا إلى الأمازيغ الذين لا يسايرون الحكم المركزي، وهي ورسالة أيضا إلى المجتمع الدولي بأن حكومة طرابلس تملك سلاحا جديدا قادرة على استخدامه.
لكن الرسالة الأكبر، التي فهمها الجميع، هي أن أوكرانيا صارت شريكا في صراعات دولية لا تمتّ لحدودها بصلة، وأن الغرب مستعد أن يمرر هذا كله، ما دام يصبّ في خانة تقليل أعداد المهاجرين، وفي هذا المشهد المعقّد، يسقط السوداني والتونسي والمغربي والليبي، دون أن يجدوا من يطالب بحقهم، أو حتى يذكر أسماءهم.
بقلم: مازن بلال
تقرير يحذر من تشديد العقوبات الاقتصادية على ليبيا
