19 سبتمبر 2024

يشهد الغرب الليبي فصلا جديدا من الصراعات الداخلية عبر محاولة إقالة محافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، وذلك من خلال تهديدات مباشرة دعت المحافظ للبحث عن حماية أمريكية لموقعه.

عملياً فإن خلافات المحافظ مع رئيس الحكومة في طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، ليست جديدة، فمحاولة الإطاحة به تكررت خلال السنوات الماضية، ودفعته للسفر إلى تركيا تخوفا من أي نتائج تترتب عن إقالته، لكنها اليوم تأخذ منحى مختلف وسط هشاشة الوضع السياسي في طرابلس، حيث يقدم هذا الحدث نموذجا للصراع الأوسع للسيطرة على الموارد المالية والاقتصادية لليبيا، والتي تعد أساسية في البيئة السياسية المتناحرة في الغرب الليبي.

قوة وتأثير الصديق الكبير

منذ عام 2011 وبعد سقوط نظام معمر القذافي أصبح الصديق الكبير محافظ مصرف ليبيا المركزي، وجعله هذا المنصب أكثر الشخصيات نفوذا في البلاد، فهو بقي حاكما للمصرف خلال أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ ليبيا الحديث، بما في ذلك حربين أهليتين وانقسام البلاد إلى حكومات متنافسة، وسيطرته على الموارد المالية الهائلة لليبيا، بما في ذلك احتياطيات العملات الأجنبية وإيرادات النفط،  ما سمح له بالحفاظ على نفوذ كبير على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

وتتجلى قدرة الكبير على التنقل في المشهد السياسي المعقد في ليبيا في بقائه في منصبه رغم المحاولات المتعددة لإزاحته، حيث تحوم حوله تهم الفساد وسوء الإدارة، ويستند المنافسون له  إلى ما حدث من تدهور في الاقتصاد الليبي، والانخفاض الحاد لقيمة الدينار خلال فترة ولايته، في المقابل فإنه يرى في إدارته للمصرف قوة استقرار مدعومة بشبكة المصالح الغربية، فبقاء المصرف المركزي فعالا وسط الفوضى التي اجتاحت ليبيا تمثل صورة أساسية لدعم النفوذ الأوروبي والأمريكي لبقاء الصديق الكبير حاكما للمصرف المركزي.

الدبيبة في مواجهة “الكبير”

أحدث محاولة لإقالة الكبير يقودها عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، ويشاركه في هذا الأمر رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي، وتشير بعض التقارير إلى أن حكومة طرابلس بدعم من مجموعات مسلحة، مارست ضغوطاً كبيرة على الكبير، ما أدى إلى صدور مرسوم من المجلس الرئاسي يأمر بإقالته، وتأتي هذه الخطوة في ظل تصاعد التوترات بين الدبيبة والكبير التي نجمت  عن رفض المصرف الموافقة على بعض التخصيصات المالية التي اقترحتها الحكومة، حيث يدعي الدبيبة أنها ضرورية للحفاظ على عمل الحكومة، بينما يعرب الكبير عن مخاوفه بشأن إساءة استخدام الأموال وعدم الشفافية في تعاملات حكومة الوحدة الوطنية المالية.

دفع هذا الخلاف ووصوله إلى احتمال الإقالة باستخدام المجموعات المسلحة إلى لجوء الكبير للولايات المتحدة، حيث التقى مع المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، الذي أصدر بدوره تحذيرات قوية ضد استخدام القوة لإزالة الكبير، مشدداً على المخاطر التي تترتب على ذلك فيما يتعلق بإمكانية وصول ليبيا إلى الأسواق المالية الدولية، كما أكدت السفارة الأمريكية في ليبيا، عبر منصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي، دعمها للكبير وشددت على أهمية الحفاظ على نزاهة واستقلالية مصرف ليبيا المركزي.

ورغم أن هذا التدخل الأمريكي يعكس بصورته العامة الأبعاد الجيوسياسية الأوسع للأزمة، لكنه في المقابل يقدم مشهدا سياسيا في الغرب الليبي ينقل حالة التبعية للمصالح الأمريكية بالدرجة الأولى، ويكشف طبيعة اعتماد طرابلس على النفوذ الأمريكي بدلا من الرجوع إلى شرعية القوانين، أما الولايات المتحدة فهي تعتبر المؤسسات المالية الليبية، ولا سيما المصرف المركزي، أكثر من مجرد كيانات محلية بل هي مرتبطة بعمق في شبكة مصالحها، وتعتبر الكبير حليفاً مهماً للحفاظ على قدرتها في التأثير على النظام المالي الليبي، وأي تعطيل لعمليات المصرف المركزي قد تكون له آثار واسعة النطاق بالنسبة لها، ليس فقط على ليبيا ولكن أيضا على النفوذ الأمريكي فيها.

دور المجموعات المسلحة وخطر التصعيد

نقل الصديق الكبير لنورلاند التهديدات التي تحيط به من خلال استخدام المجموعات المسلحة لإزاحته من منصبه، ويضيف هذا الموضوع تعقيدا إضافيا للمشهد الحالي في الغرب الليبي، حيث لعبت الميليشيات الليبية المتعددة، التي تحالفت مع مختلف الفصائل السياسية، دوراً حاسماً في الصراعات على السلطة في طرابلس، واستخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية أمرا ليس جديدا، لكن وصول حكومة الدبيبة إلى التهديد باستخدام السلاح يطرح مؤشرين:

  • الأول أن مسألة التهديد بالمجموعات المسلحة للإطاحة بـ”الكبير” تعني في النهاية وصول الصراع إلى نقطة “اللاعودة”، ومن المستبعد أن تلجأ حكومة الدبيبة لهذا الأمر دون على الأقل إعلام نورلاند، فالموقف الأمريكي هنا يطرح الكثير من التساؤلات، فهل تريد الولايات المتحدة اللعب على توازن الصراعات في الغرب الليبية؟
  • المؤشر الثاني يرتبط بتصريح نورلاند حول هذه الأزمة، فهي ليس تطمينا لمحافظ المركز إنما تأكيد عن أن الولايات المتحدة هي المعنية بأي تغير أو صراع في الغرب الليبي، وهي في النهاية ستستخدم الصراع الحالي لإيجاد مسار يخص مصالحها بالدرجة الأولى.

إن اعتماد حكومة الدبيبة على الميليشيات لممارسة الضغط على الكبير يعد استراتيجية تلويح بالقوة تم استخدامها سابقا، وهي تنقل رسائل تعبر عن تبعية مؤسسات لنفوذ الأشخاص وليس لشرعية يقرها المجتمع الليبي، فالاحتمالات التي تهديد “الصديق الكبير” هي شأن هامشي بالنسبة لما تريده حكومة طرابلس عبر تهديداتها باستخدام المجموعات المسلحة، فالهدف في النهاية ترهيب الجميع وليس إخافة محافظ المصرف.

مستقبل الاستقرار المالي في ليبيا

ضمن الاحتمالات القائمة اليوم هي أن ينجح الدبيبة وحلفاؤه في إزالة الكبير، وسيؤدي ذلك إلى إعادة توزيع القوى داخل المؤسسات المالية الليبية، وسيحمل هذا الأمر حالة من عدم الاستقرار على الاقتصاد الليبي، فدور المصرف المركزي كحارس لثروات ليبيا أمر حاسم، وأي تعطل في عملياته يزيد من تفاقم الوضع الاقتصادي الصعب بالفعل، أما إذا تمكن الكبير من الاحتفاظ بمنصبه، فإن ذلك سيمثل هزيمة كبيرة للدبيبة ويضعف موقف حكومته، سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي، وخاصة بعد الإجماع في مجلس  البرلمان الليبي والتصويت على إنهاء ولاية حكومة الدبيبة واعتبار حكومة أسامة حماد هي الشرعية، كما أن بقاء الكبير في منصبه يشجع المؤسسات والأفراد الآخرين الذين يعارضون حكومة طرابلس على مواجهة الدبيبة؛ لكن الاحتمالين هما بالنسبة للولايات المتحدة صورة للمناورات التي تقوم بها الأطراف المتصارعة في الغرب الليبي، وفي النهاية فإن أيا من النتائج لن يغير بالنسبة لواشنطن من مصالحها القائمة، لأنها قادرة في النهاية على إيجاد وكلاء لها بشكل دائم.

محاولة الإطاحة بالصديق الكبير من منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي هي صورة مصغرة للصراع الأوسع على السلطة الذي شهدته ليبيا منذ عام 2011، فهي تسلط الضوء على الصراع المستمر للسيطرة على موارد البلاد، الذي يظل أحد المحركات الرئيسية للصراع، وتحركه في الغالب الجهات الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، حيث تتأثر السياسة الداخلية الليبية بشكل متزايد بالمصالح الجيوسياسية الخارجية، وسيبقى مصير الكبير والمصرف المركزي صورة لمشهد يتكرر في الغرب الليبي وسط بيئة سياسية تستمد شرعيتها من النفوذ الغربي بالدرجة الأولى.

بقلم مازن بلال

ليبيا ضمن أكثر 10 دول إفريقية فساداً في 2024 وفق تقرير دولي

اقرأ المزيد