يتصاعد التوتر السياسي بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب، حول مسائل الحوكمة والشرعية والسيطرة على المؤسسات الوطنية، وذلك مع الاستفزاز السياسي من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي وبشكل يوحي بمزيد من التصعيد.
تبدو المؤسسات الليبية في وضع حرج نتيجة عدم وجود شرعية دستورية واضحة بعد الفشل في إجراء الانتخابات، فمطالبة رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، مجلس النواب بإلغاء قانون إنشاء المحكمة الدستورية رقم 5 لسنة 2023، وإعادة النظر في القوانين التي لا تتناسب مع المرحلة الانتقالية أو تخالف الاتفاق السياسي، لا تمثل فقط صراعا على مستوى الحكومتين في الشرق والغرب الليبيين، بل أيضا تداخلا فاضحا في فصل السلطات، حيث يتهم المنفي مجلس النواب بمحاولة السيطرة على السلطة القضائية من خلال تشريعات تصدر دون وجود نصاب دستوري في الجلسات، في وقت يتعامل فيه مجلس النواب في إنشاء المحكمة الدستورية من معطيات المرحلة الانتقالية لضبط الأمور وتجنب إصدار أحكام على قوانين لم تُطبق بعد.
الصراع على السلطة والشرعية
منذ انتهاء صلاحية الاتفاق السياسي الليبي الذي رعته الأمم المتحدة عام 2015، تعاني ليبيا من مشكلات متعلقة بالشرعية والاختصاصات، فالمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية بقيادة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة انتهت ولايتها رسميا في ديسمبر 2021، واستمرارها قائم على الظرف السياسي فقط المرتبط بالمصالح الدولية بالدرجة الأولى، وبطبيعة تعاملها مع أشكال التواجد المسلح في الغرب الليبي.
عمليا فإن مجلس النواب يتهم المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة بتعطيل الانتخابات للبقاء في السلطة، حيث يستغلان سيطرتهما على الموارد الوطنية لمنع الانتخابات والحفاظ على نفوذهما على مؤسسات الدولة، ومطالب المنفي الأخيرة، بما في ذلك دعوته مجلس النواب لإلغاء قانون المحكمة الدستورية، محاولة واضحة لزعزعة سلطة المجلس التشريعي، وطلب المنفي من رئيس مجلس النواب إلغاء قانون المحكمة الدستورية يواجه معضلة أساسية، مرتبطة أساسيا بالشرعية التي يحملها مجلس النواب، وبالصلاحيات التي يملكها كونه مؤسسة منتخبة وليست معينة من قبل أي جهة أخرى، فالمنفي يحاول إنهاء كافة صلاحيات مجلس النواب عبر تجاوز الاتفاق السياسي والتدخل في شؤون السلطة التشريعية، وهذه الآلية في التعامل السياسي يعتبرها مجلس النواب جزءا من تعميق الانقسامات، ومحاولة لتقويض شرعية مجلس النواب كهيئة وحيدة منتخبة تمثل الشعب الليبي.
ويعكس الصدام الحاصل بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب أزمة أعمق في مسألة التعامل مع الدولة الليبية عموما، فطلب المنفي إلغاء المحكمة الدستورية له مقدمات بدأت بمسألة السيطرة على مصرف ليبيا المركزي، حيث عيّن مجلس النواب مجلس إدارة جديد للمصرف، لكن هذا القرار قوبل بانتقادات فورية من المنفي وحكومة الوحدة الوطنية، حيث اعتبرا أنه اتُخذ على عجل دون مراعاة لوحدة البلاد، وفي نفس الوقت حاولا الترويج لفكرة استفتاء وطني لتحديد مستقبل إدارة المصرف والمؤسسات الأخرى، باعتبار أن الشعب الليبي هو صاحب الحق في اتخاذ مثل هذه القرارات، لكن هذا الاقتراح لا يحمل فقط إشكاليات على المستوى السياسي بل هو أيضا غير واقعي، حيث تفتقر ليبيا إلى البنية التحتية التقنية لتجهيز مثل هذا الاستفتاء.
الصراع على استقلالية القضاء
الخلاف الحالي بين مجلسي الرئاسة والنواب يوضح الصراع على مستقبل السلطة القضائية، سواء في هذه المرحلة أو حتى في حال إجراء انتخابات جديدة، حيث يمثل المنفي توجها في جعل الجهاز التنفيذي للبلاد مؤثرا على السلطة القضائية، ويحاول إبعاد مجلس النواب عن مسألة التعيينات القضائية، فهو لا ينظر إليه كسلطة منتخبة إنما كخصم سياسي، بينما يعكس مجلس النواب توجها في إبعاد القضاء عن التأثيرات السياسية، فتأسيس المحكمة الدستورية يقع ضمن صلاحيات مجلس النواب التشريعية، وتدخلات المجلس الرئاسي تهدد استقلال القضاء، وهو أمر ستكون له عواقب على سيادة القانون في ليبيا.
يستند مجلس النواب إلى شرعية قراراته كونه مؤسسة منتخبة، بينما ينحصر دور المجلس الرئاسي المؤقت في الاتفاق السياسي، فصلاحياته تتوقف عندما يتعلق الأمر بالهيئة المنتخبة من قبل الشعب الليبي، وفي عمق هذه الأزمة صورة سياسية أخرى أعادت رسم كافة المؤسسات الليبية وفق تصورات الخلافات التي ظهرت نتيجة إخفاق العملية السياسية، فالمجلس الرئاسي عاجز عن التعامل مع ليبيا خارج إطار الصراعات التي أدت لظهور حكومتين، وهو غير قادر على النظر إلى مجلس النواب إلى من زاوية الانحياز السياسي لحكومة طرابلس المنهية الولاية.
الخلافات التي تظهر بشكل دوري على المشهد الليبي هي في النهاية نتيجة تعثر المسار السياسي، فالهيئات التنفيذية القائمة اليوم، المجلس الرئاسي والحكومة، كانت وظيفتها الأساسية السير بالبلاد نحو إجراء انتخابات وإنهاء المرحلة الانتقالية، لكنها أصبحت اليوم هيئات تصارع على النفوذ السياسي، وعلى الرغم من تأكيد المنفي والدبيبة على دعمهما لإجراء الانتخابات، فإن خطواتهما تشير إلى العكس، والتأخير يخدم مصلحتهما لأنه يسمح لهما بالاحتفاظ بسيطرتهما على أجهزة الدولة، في وقت تؤدي الانتخابات إلى فقدان نفوذهما السياسي.
الدعوات للوحدة وسط الجمود السياسي
يكشف هذا الصراع المستمر مدى تعقيد المشهد السياسي الليبي، حيث تتصارع السلطات المختلفة على السيطرة على الهيئات الحكومية، والموارد الاقتصادية والشرعية المؤسسية، وبينما تتصاعد حدة الخطاب السياسي، تظهر دعوات لإعادة بناء الوحدة وتشكيل حكومة موحدة، فما يقوم به المجلس الرئاسي هو مناورات السياسية تكرس استمرار الانقسام وتعرض للخطر مسيرة ليبيا نحو الاستقرار فتصرفات المنفي الأخيرة أثارت نقاشات حول الشرعية وطرحت تساؤلات حول قدرة ليبيا على إجراء انتخابات من شأنها تشكيل حكومة تتمتع بقبول واسع، فالإصرار من قبل المجلس الرئاسي على احتكار السلطة هو في النهاية محاولة لتعميق الخلافات وإطالة أمد المرحلة الانتقالية بدلا من التوصل إلى اتفاق سياسي وانتخابات ليبية عامة.
بقلم مازن بلال
حفتر يتعهد بتحقيق التنمية في ليبيا مع التركيز على الجنوب كأولوية