18 ديسمبر 2025

تكشف التجربة البلدية في ليبيا أن الحكم المحلي ما زال المساحة الوحيدة القابلة للعمل عند تحيد الصراعات الكبرى، وتوفير حد أدنى من الاستقرار والقرار الأمني الموحد، فنجاح الانتخابات لا يرتبط بتوافق وطني، بل  بقدرة السلطات على ترك المجال المحلي دون تدخل أو توظيف سياسي.

شهدت ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011 تحولاً نحو بناء مؤسسات الحكم المحلي، حيث اعتمدت السلطات الانتقالية قانون الإدارة المحلية رقم (59) لسنة 2012، الذي أسس لإقامة مجالس بلدية وإقليمية منتخبة، وفي الفترة بين 2012 و2014، جرت عدة انتخابات بلدية بشكل غير منتظم، قبل أن تتوقف بسبب تصاعد العنف والانقسام السياسي الذي أدى إلى وجود برلمانين متنافسين في شرق وغرب البلاد.

وفي الجانب المؤسسي، أنشأت ليبيا هيئتين منفصلتين للإشراف على الانتخابات: المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، المسؤولة عن الانتخابات الوطنية، واللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية، المختصة بالانتخابات المحلية. وفي عام 2022، صادق البرلمان المنعقد في الشرق على قانون ينقل مسؤولية الانتخابات البلدية إلى المفوضية الوطنية العليا، مما مهّد الطريق لإعادة تنظيمها بشكل كامل.

وشهدت تسع بلديات ليبية في الشرق والجنوب في 13 ديسمبر 2025، من بينها بنغازي وطبرق وسبها وسرت، إجراء انتخابات بلدية اتسمت بالهدوء والانضباط التنظيمي، وفُتحت 311 مركز اقتراع في موعدها، وشارك أكثر من 120 ألف ناخب مسجل في اختيار 87 عضوا ًبلدياً، وسط حضور مكثف للمراقبين المحليين ووكلاء المرشحين، في مشهد نادر نسبياً ضمن المشهد الليبي العام.

نجاح العملية لم يكن سياسياً بقدر ما كان إجرائياً، فلا حديث عن تنافس برامج أو رؤى تنموية متباينة، بقدر ما كان الرهان على إنجاز الاستحقاق ذاته دون تعطيل أو عنف، وهذا النجاح يمنح الانتخابات البلدية وزناً متزايداً بوصفها المسار الانتخابي الوحيد الذي لم يتعطل بالكامل منذ سنوات.

أرقام المشاركة والرقابة: ماذا تقول المؤشرات؟

بلغت نسبة المشاركة النهائية، بحسب المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، نحو 69%، وهي نسبة مرتفعة نسبياً قياساً بالسياق الليبي العام، وشارك في مراقبة العملية أكثر من سبعة آلاف مراقب ووكيل مرشح، وانتشرت إجراءات التحقق من الهوية وبطاقات الناخبين وصناديق الاقتراع الشفافة، كما نفت المفوضية اتهامات التزوير، خصوصاً في بلدية سرت، وقدمت توضيحات إجرائية عززت مصداقيتها.

هذه المؤشرات لا تعني بالضرورة ثقة شاملة في العملية السياسية، لكنها تعكس استعداداً مجتمعياً للتفاعل مع الانتخابات عندما تكون محلية ومحدودة الأثر، وبعيدة عن صراع الشرعيات الوطنية، فالمواطن يصوت على خدمات قريبة من حياته اليومية، لا على معادلات سلطة كبرى.

غرب ليبيا يحتج: عندما تصبح الهيكلة البلدية أزمة سياسية

في مقابل هذا المشهد الهادئ شرقاً كانت مناطق غرب ليبيا تشهد توتراً متصاعداً، لا بسبب الانتخابات، بل بسبب قرارات حكومية تتعلق بإعادة رسم الخريطة البلدية، فحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، أصدرت قرارات بضم بلديات زمزم وبي وأبونجيم كفروع تابعة لبلدية مصراتة، ما فجر احتجاجات حادة قادها المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلة.

الاحتجاجات لم تطرح  عناوين مطلبية وخدمية، بل رفعت خطاباً سياسياً واجتماعياً مباشراً، واتهمت الحكومة بالتحايل على أحكام قضائية، وباستخدام التنظيم الإداري غطاء لمشروع توسعي، فلم يعد الخلاف تقنياً حول حدود بلدية، بل تحول إلى صراع على الشرعية والتمثيل والموارد.

من تاورغاء إلى زمزم: الضم كأداة سياسية لا إدارية

قضية زمزم ليست معزولة، فهي تأتي بعد سنوات من الجدل حول محاولة ضم تاورغاء إلى مصراتة، وما رافقها من حساسيات تاريخية واجتماعية، حيث تطرح الحكومة قراراتها باعتبارها خطوات تنظيمية تهدف إلى تحسين الخدمات، لكن الأطراف المتضررة ترى فيها مساساً بالهوية المحلية وتكريساً لهيمنة بلدية كبرى على محيطها.

ليس من الضروري افتراض أن الدبيبة يسعى إلى إنشاء “إقليم فائق الولاء” بمفهومه السياسي الصريح، فالأرجح أن المسألة تتعلق بإعادة توزيع النفوذ والامتيازات، خصوصاً في ما يتصل بالأراضي الزراعية، والمحاجر، وحقوق الجباية، والمشاريع الاستراتيجية، فالحدود البلدية في ليبيا ليست خطوطاً على الخريطة فقط، بل مفاتيح للتحكم في الموارد.

قبائل ورفلة وخطاب الرفض

بيانات المجلس الاجتماعي لقبائل ورفلة عكست مستوى عالياً من التصعيد، فظهر رفض صريح للقرارات الحكومية، ودعوة لإلغائها واعتبارها كأن لم تكن، ومطالب بإخلاء مواقع عسكرية وفك ارتباط المؤسسات الخدمية عن مصراتة، وهذا الخطاب يكشف فقدان الثقة في الدولة المركزية، واللجوء إلى الأطر الاجتماعية التقليدية للدفاع عن المصالح.

ورغم أن هذا المسار يعمق منطق السياسة القائمة على المكونات الاجتماعية، فإنه في الوقت نفسه نتيجة مباشرة لغياب مسار تشريعي وطني ينظم التقسيمات الإدارية بشكل توافقي، فعندما تُتخذ قرارات مصيرية بمرسوم حكومي في ظل غياب برلمان فاعل ودستور مستفتى عليه، يصبح الاحتجاج أمراً متوقعاً.

البلديات والموارد: لماذا تتحول الحدود إلى ملف اقتصادي؟

التركيز الكبير على رفض الضم لا ينفصل عن البعد الاقتصادي، فالمجالس البلدية تملك صلاحيات تتعلق بالإشراف والجباية وتنظيم الأراضي، ونقل بلدية من وضع مستقل إلى فرع تابع يعني نقل القرار المالي والإداري إلى مركز آخر، وفي اقتصاد ريعي ومأزوم مثل الاقتصاد الليبي، تصبح هذه الصلاحيات مسألة نفوذ لا تقل أهمية عن المناصب السياسية.

الصراع كما يظهر اليوم البلدي ليس صراعاً إدارياً بالكامل، بل هو امتداد للصراع على الموارد في دولة لم تحسم بعد شكل توزيع السلطة بين المركز والأطراف.

المفوضية والأمم المتحدة: رهان على المحلي وسط انسداد وطني

بعثة الأمم المتحدة رحبت بالانتخابات البلدية واعتبرتها دليلاً على استمرار انخراط الليبيين في المسارات الانتخابية، وهذا الأمر يعكس رهاناً دولياً واضحاً على الحكم المحلي كمدخل تدريجي لكسر الجمود السياسي الوطني، فبينما تتعثر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تبدو البلديات أقل كلفة سياسياً وأمنياً.

غير أن هذا الرهان يبقى محدوداً إذا لم يُحمَ الحكم المحلي من التوظيف السياسي، فالانتخابات البلدية يمكن أن تعزز المساءلة والخدمات، لكنها تتحول أيضاً إلى أداة لتكريس الانقسام إذا استُخدمت لإعادة رسم النفوذ الجهوي.

تكشف تجربة ديسمبر 2025 أن الحكم المحلي في ليبيا يقف عند مفترق طرق، فمن جهة، هناك قدرة حقيقية على تنظيم انتخابات بلدية مقبولة، تعيد للمواطن جزءاً من حق الاختيار، وفي المقابل توجد سلطة مركزية في الغرب تتعامل مع البلديات كأدوات قابلة لإعادة التشكيل وفق حسابات النفوذ.

إذا أُريد للانتخابات البلدية أن تكون رافعة لبناء الدولة، لا بد من تحصينها قانونياً، وفصلها عن منطق الغنيمة السياسية، وربط أي تعديل إداري بمسار تشريعي وطني شفاف، أما إذا استمرت قرارات الضم والإلحاق بوصفها أدوات مكافأة وعقاب، فإن الحكم المحلي سيتحول من مساحة أمل إلى ساحة صراع إضافية، في بلد لم يعد يحتمل مزيداً من خطوط الانقسام.

  بقلم: نضال الخضري

هل ستصل رواتب الموظفين الحكوميين في ليبيا إلى 100 مليار دينار؟

اقرأ المزيد