تحوّلت مباراة قمة الدوري الليبي الممتاز بين الأهلي طرابلس والاتحاد (مصراتة) إلى فوضى وعنف، وتوقفت المباراة عند الدقيقة 39، ولم تكن القصة في كرة قدم، بل في بلد تُمسك السياسة فيه بالرياضة، وتحوّل ملاعبها إلى ساحات لتصفية الحسابات.
المباراة التي لم تكتمل: من ملعب إلى ساحة حرب
دخل الفريقان المباراة وسط توتر غير معلن، لكن سرعان ما ظهر على السطح بعد هدف الاتحاد من ركلة ثابتة نفذها المغربي نوفل الزرهوني، ففي أقل من دقيقة، انفجر الشجار بين اللاعبين، ثم تبعه انسحاب طاقم التحكيم البرتغالي بقيادة فابيو خوسيه، بعدما فقد السيطرة على المباراة.
ولم يكن قرار الانسحاب فقط رد فعل على ما حدث داخل الملعب، بل على ما كان يحدث في المدرجات، رغم أن المباراة “رسمياً” أُقيمت دون جمهور.

المثير أن الجماهير اقتحمت الملعب رغم قرار اللعب بدون حضور، ما يطرح سؤالاً أساسياً: أين كانت وزارة الداخلية؟
عجز أمني أم تواطؤ سياسي؟
وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية فشلت في تنفيذ قرار إقامة المباراة دون جمهور، ولم تستطع السيطرة على الوضع داخل وخارج الملعب، وتم حرق حافلات، وأُصيب الحكم ومشجعون، ووقع إطلاق نار حي على جماهير الأهلي، بحسب بيان رسمي من النادي، والسؤال المطروح هنا ليس فقط عن الإخفاق الأمني، بل عن دوافعه.
هل كان ذلك نتيجة عدم كفاءة؟ أم أن الأمور تتجاوز ذلك نحو تواطؤ متعمّد لإشعال النزاع؟

المعطيات السياسية تغذي هذا الاحتمال، فغنيوة، الشخصية الأمنية الراحلة التي كانت أحد رموز ميليشيا “قوة الردع”، كان يشغل منصب الرئيس الفخري لنادي الأهلي طرابلس، وعلى الجانب الآخر، يشغل ابن رئيس حكومة طرابلس عبد الحميد دبيبة، مقعداً في مجلس إدارة نادي الاتحاد، وكان الدبيبة نفسه رئيساً سابقاً له، أي أنّ الخصومة لم تكن فقط رياضية، بل سياسية – فئوية، بامتياز.
انحياز الدولة
الانحياز الفاضح ظهر في كيفية تعامل القوى الأمنية مع الأحداث، فالتقارير المصوّرة والبيانات الصادرة من الأطراف المعنية تشير إلى أن الرصاص أُطلق حصرياً على جماهير الأهلي طرابلس.
وأصدر النادي بياناً أدان فيه استخدام القوة المفرطة، مؤكداً حدوث إصابات بين جماهيره، في المقابل دعا نادي الاتحاد إلى التحقيق، لكنه ركّز على حرق حافلة الفريق، متجاهلاً الإشارة إلى إطلاق النار.
في خلفية المشهد، بقيت حكومة الدبيبة صامتة، ولم تصدر أي بيان رسمي يدين ما جرى أو يوضح الملابسات الأمنية، والواضح أن ديربي طرابلس لم يكن سوى صورة مصغّرة عن كيف تُستخدم الرياضة في ليبيا كأداة لتكريس الهيمنة، أو لتصفية حسابات بين أطراف نافذة.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُوظف فيها ناد رياضي لتوسيع نفوذ سياسي أو عسكري، لكنها واحدة من أكثر المرات فجاجة، لأنها جرت تحت أنظار العالم، في مباراة يفترض أنها كانت “بدون جمهور”.
والغريب في الحدث الأمني أن اتحاد كرة القدم نفسه لم يفتح تحقيقاً شفافاً حتى اللحظة، واكتفى بإعلان قرب صدور تقرير من لجنة المسابقات، ولا مؤشرات على محاسبة من اقتحم الملعب، ولا مساءلة عن كيفية إدخال جمهور في مباراة مغلقة، ولا أي خطوة نحو محاسبة قوات الأمن المتورطة في العنف.
الصراع بين طرابلس ومصراتة.. بوجه رياضي
المباراة بين الاتحاد والأهلي لم تكن مجرد قمة كروية، بل جزء من صراع أوسع بين مدينتي طرابلس ومصراتة، ففي السنوات الماضية، برزت هذه الثنائية في كل مفاصل الدولة الليبية، من الحكومة إلى المصرف المركزي إلى أجهزة الأمن، ووصل هذا الانقسام إلى الملاعب، حيث أصبح كل ناد يمثل مدينة، وتحالفات، ومصالح متشابكة.

ولم يكن انحياز القوى الأمنية، بحسب شهود وبيانات، بريئاً، فهي تدخلت بشكل سافر لصالح مصراتة، مدينة الاتحاد، على حساب طرابلس، مدينة الأهلي، وهذا النوع من التدخل يقتل مفهوم “اللعب النظيف” من جذوره، ويحوّل الرياضة من مساحة للتنفيس إلى مساحة للتفجير.
ماذا بعد؟
الدعوات للتحقيق، سواء من نادي الاتحاد أو من الأهالي غير كافية دون وجود إرادة سياسية لكسر هذا التداخل بين السياسة والرياضة، ما حدث في ديربي طرابلس ليس خلافاً بين لاعبين، بل نتيجة مباشرة لتحويل الأندية إلى أدوات نفوذ سياسي، ففي ظل غياب الشفافية وانحياز المؤسسات، تبقى الرياضة في ليبيا رهينة التوظيف السياسي والفئوي.

ولا يمكن اعتبار أحداث 18 يونيو 2025 شغباً رياضياً عابراً، بل فضيحة سياسية وأمنية، تكشف عن خلل عميق في طريقة إدارة البلاد، حيث الدولة لا تقف على مسافة واحدة من الجميع، بل تلعب دور الحكم والمشجع واللاعب في آنٍ معاً، وتحمل السلاح أيضاً.

إذا كانت السياسة أفسدت الاقتصاد، وقسمت المؤسسات، وشرذمت المجتمع، فإنها اليوم تطارد ما تبقى من الأمل في الوحدة: كرة القدم، فوحدها الرياضة كانت تُوحّد الشارع الليبي، لكنها الآن أصبحت مرآةً لانقسامه.
بقلم: نضال الخضري
ليبيا.. اعتراض قارب يحمل 93 مهاجرا غير نظاميّ شمال غرب طبرق
