05 ديسمبر 2025

تشير المعطيات إلى أن التدهور الحاد في العلاقات بين الخرطوم وأبوظبي ليس مجرد رد فعل على أحداث ميدانية، بل نتاج تراكمات سياسية وأمنية واقتصادية أعادت رسم خطوط التماس، وجعلت ساحة الصراع السوداني جزءاً من معادلة إقليمية تتقاطع فيها المصالح والمخاوف.

ويبدو أن الهجمات الأخيرة على منشآت حيوية في بورتسودان، وما تبعها من قرارات متبادلة بطرد الدبلوماسيين وفرض قيود اقتصادية، ليست سوى واجهة لصراع أعمق يدور حول النفوذ في البحر الأحمر، وموقع السودان في ميزان القوى الإقليمي، والدور الذي يمكن أن تلعبه الإمارات في إعادة تشكيل هذا التوازن.

من قصف المستودعات إلى تبادل الطرد

انفجار مستودع الوقود الاستراتيجي في بورتسودان، ومحطة كهرباء ميناء بشائر، ومطار المدينة، لم يكن مجرد حادث عسكري في سلسلة الاشتباكات مع قوات الدعم السريع،فالخرطوم نسبت الهجمات إلى طائرات مسيّرة “حديثة” حصلت عليها هذه القوات عبر دعم إماراتي، وهو اتهام سرعان ما تحول إلى قرار سياسي بقطع العلاقات وسحب البعثات الدبلوماسية.

بدورها نفت أبوظبي الاتهامات، لكن نفيها جاء مرفقا بلهجة حادة تجاه ما وصفتها بـ”سلطة بورتسودان” غير الشرعية، متهمة إياها بتشتيت الانتباه عن مسؤوليتها في إطالة أمد الحرب.

إجراءات الرد الإماراتية كانت سريعة ومتعددة المسارات، حيث تم إبعاد موظفي القنصلية السودانية في دبي، وتعليق الرحلات الجوية، ووقف الترانزيت والتجارة البحرية، وحتى اتهامات ضمنية بأن الخرطوم تسعى لتأليب الرأي الدولي ضدها عبر “ادعاءات بلا دليل”، فخرج التصعيد من إطار الميدان السوداني إلى مواجهة دبلوماسية واقتصادية متكاملة.

الدعم السريع كعقدة الخلاف

لا يخفى أن جوهر الأزمة يدور حول موقع الإمارات في الحرب السودانية، فالتقارير الأممية، والتحقيقات الإعلامية، وتصريحات لمسؤولين أميركيين وسودانيين، رسمت صورة لدعم إماراتي، عبر وسطاء إقليميين، لقوات الدعم السريع، شمل تزويدها بالسلاح، ونقل مرتزقة، وتسهيلات لوجستية عبر تشاد وإفريقيا الوسطى.

أبوظبي تصر على أن تدخلها يقتصر على الجانب الإنساني ودعم جهود السلام، لكن الخرطوم ترى أن المكاسب الميدانية الأخيرة لحميدتي، مثل السيطرة على ولاية الجزيرة، ما كانت لتتحقق دون هذا الدعم.

الأمر يتجاوز اتهاما أحاديا بالنسبة للبرهان، فأي اختلال لميزان القوى لصالح الدعم السريع يعني تهديداوجوديا لسلطة الجيش، و”تحييد” الدعم الإماراتي أصبح جزءا من استراتيجية البقاء، لا مجرد مطلب تفاوضي.

البحر الأحمر… الميدان الصامت

عمليا خرجت الأزمة من إطار الحرب السودانية إلى ميدان أوسع، فالسودان يمثل أحد أهم المنافذ الاستراتيجية على البحر الأحمر، واستقراره أو اضطرابه مسألة تمس أمن الطاقة والتجارة العالمية، والإمارات، التي استثمرت المليارات في موانئ السودان مثل أبو عمامة، ترى في المنطقة بوابة إلى عمق إفريقيا وسوقا للأمن الغذائي في ظل تحديات المناخ.

تصعيد الخرطوم ضد أبوظبي يهدد هذه المصالح، لكنه لا يلغيها،فحتى في ذروة الاتهامات المتبادلة، يدرك الطرفان أن السيطرة على الموانئ والطرق البحرية ستظل ورقة حيوية في أي تسوية مستقبلية، وهذا يفسر لماذا الانفصال التام ليس خيارا طويل الأمد لأي منهما.

المتغير الأميركي

واشنطن، رغم انشغالها بملفات غزة وأوكرانيا، دخلت المشهد بصوت خافت لكن مؤثر، رسائل مشرعين ديمقراطيين إلى الخارجية الإماراتية، وتحذيرات من انتهاك حظر الأسلحة على دارفور، عكست قلقا متزايدا من أن أبوظبي تسهم في إطالة أمد الصراع، لكن التردد الأميركي في اتخاذ خطوات عملية جعل الخرطوم ترى في ذلك دليلا على أن رهان البرهان على تدخل غربي حاسم ضد الإمارات بعيد المنال، ما دفعه إلى التصعيد الأحادي.

ولم يقتصر الصراع على الأسلحة والقرارات الرسمية، فالإعلام الموالي للجيش السوداني والإماراتي على حد سواء انخرط في حرب سرديات، حيث تتحدث الخرطوم عن “مرتزقة كولومبيين” و”شحنات أسلحة”، وأبوظبي تصف خصمها بـ”سلطة غير شرعية” تفتقر لأي تمثيل شعبي، وهذه المعركة على الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي ليست هامشية، وتمثل محاولة لتأطير الأزمة إما كقضية سيادة وطنية ضد تدخل خارجي، أو كحرب أهلية تحتاج إلى وساطة لا إلى اصطفاف.

التداعيات على الخرطوم

على المستوى الداخلي، التصعيد مع الإمارات يمنح البرهان زخما قوميا مؤقتا، عبر تقديم نفسه كمدافع عن السيادة في وجه “عدوان خارجي”، لكن على المدى الطويل، فإن فقدان قناة دعم مالي أو استثماري من لاعب إقليمي بحجم أبوظبي يفاقم أزمة السودان الاقتصادية، ويحد من قدرته على تمويل الحرب وإدارة المناطق الخاضعة لسيطرته، كما أن قطع العلاقات مع الإمارات يقلص الخيارات الدبلوماسية المتاحة للخرطوم في حال سعت إلى وساطات خليجية أو عربية.

من جانب آخر فإن أي اضطراب في السودان، وخاصة في ولاياته الساحلية، ينعكس مباشرة على أمن البحر الأحمر، الذي يشهد أصلا توتراً بفعل الحرب في اليمن، وتنافس القوى الإقليمية والدولية على النفوذ البحري، وتعطيل حركة التجارة بين السودان والإمارات، أو إضعاف سلطة الخرطوم على الموانئ، يفتح الباب أمام لاعبين آخرين لتعزيز حضورهم، ما يعيد رسم خريطة السيطرة على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم.

المصالح الإقليمية: بين القاهرة وأديس أبابا

في قلب هذه الأزمة، تتحرك أطراف أخرى بصمت أو علنا، فمصر، التي جددت دعمها للخرطوم ورفضها لأي تهديد لوحدة السودان، تجد في التصعيد مع الإمارات فرصة لتعزيز نفوذها في البحر الأحمر وداخل المؤسسة العسكرية السودانية، وفي المقابل فإن إثيوبيا تراقب المشهد وهي تدير ملف سد النهضة، مستفيدة من انشغال الخرطوم بحربها الداخلية، فأي فراغ تتركه الإمارات في السودان سيكون مجالالتقارب سوداني-مصري أعمق، أو لاختراقات إثيوبية إذا أحسنت استغلال اللحظة.

الأرجح أن الأزمة الحالية ستبقى في حالة “تصعيد”، فالبرهان رغم خطابه الحاد، يدرك أن العزلة الإقليمية لا تخدم موقعه في حرب استنزاف طويلة، والإمارات، رغم غضبها من استهداف مصالحها واتهامها علنا، تعرف أن خسارة موقعها في السودان بالكامل سيترك فراغا تملؤه قوى منافسة مثل تركيا أو قطر أو حتى إيران عبر وسطاء.

ما يحدث في السودان ليست مجرد أزمة بين دولتين؛ بل هي حلقة من صراع أوسع على شكل النظام السياسي في السودان، وعلى توزيع النفوذ في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، والرهان على كسر أحد الطرفين للآخر يطيل أمد النزاع، فيما يتآكل الداخل السوداني تحت وطأة حرب لم تبق ولم تذر.

بقلم: مازن بلال

مفاوضات جديدة بين أطراف السودان بحضور مصر والإمارات

اقرأ المزيد