05 ديسمبر 2025

جاء إعلان قوات الدعم السريع، أواخر يوليو 2025، عن تشكيل حكومة موازية برئاسة قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) في مدينة نيالا بدارفور، كمحطة مفصلية تُدخل الصراع السوداني مرحلة أكثر خطورة.

الإعلان جاء في ذروة حرب مستعرة منذ أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع، ولا يمثل مجرد محاولة سياسية لانتزاع الشرعية، بل يكرّس واقع الانقسام القائم في السلطة ومؤسسات الدولة، ويعكس عجز الأطراف عن الحسم العسكري أو التوافق السياسي، ويعبّر أيضا عن حاجة عملية لوجود جهة تقوم بالوظائف المدنية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، ابتداء من أبسط الخدمات كإصدار جوازات السفر، لكنه يضاعف المخاوف من تفكك السودان ويضع البلاد أمام سيناريوهات أكثر قتامة، حيث يتحول النزاع من صراع على النفوذ إلى أزمة وجودية تهدد بقاء الدولة ووحدتها.

الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، رفض الخطوة وعدّها مناورة سياسية بعد سلسلة الهزائم التي مُنيت بها قوات الدعم السريع، أما المجتمع الدولي والإقليمي فكان حاسماً في رفض الاعتراف بالحكومة الجديدة، مؤكداً الالتزام بوحدة السودان وسيادته.

أبعاد الصراع الراهن

لم يعد الصراع السوداني مجرد مواجهة عسكرية بين جيش نظامي وميليشيا مسلحة، بل تحول إلى مشهد متداخل الأبعاد السياسية والاقتصادية والإنسانية والإقليمية، على نحو يعكس عمق الأزمة التي تضرب البلاد، فكل بعد يضيف طبقة جديدة من التعقيد، ويجعل من الحرب اختبارا وجوديا لمستقبل الدولة ومؤسساتها.

  • البعد السياسي

في جوهره، هو صراع سلطة بين مؤسستين عسكريتين متنافستين؛ الجيش الرسمي بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وتفجّر الخلاف حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش، لينزلق إلى حرب شاملة.

إعلان حكومة موازية يمثل ذروة هذا التنازع، إذ يسعى حميدتي لتقديم نفسه ليس فقط كقائد عسكري، بل كزعيم سياسي يقود مشروع “سودان جديد”، لكن النتيجة المباشرة هي مشهد مزدوج للحكم، فهناك حكومة انتقالية في بورتسودان تحت سيطرة الجيش، وأخرى في نيالا بيد الدعم السريع.

هذا الواقع يعكس عمق الانقسام السياسي، ويستدعي المقارنة بالسيناريو الليبي الذي أفضى إلى حكومتين متوازيتين تتنازعان الشرعية وتستخدمان حتى الوسائل العسكرية الحديثة مثل الطائرات المسيّرة الأوكرانية التي لا تظهر فقط في الغرب الليبي، بل أيضا عند الجيش السوداني.

  • البعد الاقتصادي

الحرب دمّرت ركائز الاقتصاد السوداني، ووفق تقديرات رسمية ودولية، خسر السودان أكثر من 26 مليار دولار بحلول أواخر 2023، فيما تقلص اقتصاده بنسبة 42% بنهاية 2025 مقارنة بمستويات ما قبل الحرب.

الزراعة التي تمثل عماد الاقتصاد تراجعت بأكثر من الثلث، بينما فقد القطاع الصناعي نصف قيمته تقريبا، والعملة الوطنية انهارت، والمجاعة تهدد نصف السكان البالغ عددهم نحو 50 مليونا، ويبدو حديث “الحكومة الموازية” عن إصدار عملة جديدة أو إنعاش الاقتصاد هو محاولة للتعامل بشكل مستقل عن حكومة البرهان مع الواقع الاقتصادي المتردي.

  • البعد الإنساني

يشهد السودان أكبر أزمة نزوح في العالم، فأكثر من 11 مليون شخص أُجبروا على الفرار من ديارهم، بينهم ثلاثة ملايين عبروا الحدود، فيما قُتل عشرات الآلاف، وتقدّر منظمات إنسانية أن العدد يتجاوز 150 ألفاً.

المنظومة الصحية انهارت، والأوبئة تتفشى من الكوليرا والملاريا إلى حمى الضنك والحصبة، ووفق تقارير الأمم المتحدة الأخيرة، ارتكب الطرفان انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، من القتل العشوائي والاغتصاب إلى استخدام المدنيين دروعاً بشرية، وهذا التوثيق يُسقط أي سردية أحادية، ويؤكد أن معاناة الشعب هي الثابت الوحيد في حرب فقدت أطرافها أي شرعية أخلاقية.

  • البعد الإقليمي

السودان يمثل القلب الجغرافي للقرن الإفريقي وشرق إفريقيا، واستمرار الحرب يهدد استقرار دول الجوار، وموجات اللاجئين تتدفق إلى تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا ومصر، فيما يلوح خطر تحوّل دارفور وكردفان إلى ملاذ للجماعات المسلحة العابرة للحدود.

الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية أعلنا بوضوح رفضهما الاعتراف بالحكومة الموازية، إدراكا لمخاطر الانقسام على وحدة السودان واستقرار المنطقة.

أسباب استمرار الحرب

لم تعد الحرب السودانية حدثا طارئا قابلاً للاحتواء، بل تحولت إلى صراع طويل الأمد يغذّيه تشابك المصالح الداخلية والخارجية، والإخفاقات السياسية المتراكمة، والتدخلات الإقليمية، ويمكن تلخيص العوامل الأبرز في:

  • الصراع على السلطة، فهناك تنافس حاد بين البرهان وحميدتي تغذيه حسابات شخصية وسط وغياب عقد اجتماعي وطني.
  • فشل الدمج العسكري، فالنزاع حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش لم يكن فنياً فقط، بل مسّ جوهر الدولة وهوية السلطة.
  • تشظي القوى المدنية لأن المعارضة ضعيفة ومفككة، وبعضها انجذب إلى تحالفات سواء مع الدعم السريع أو الحكومة في الخرطوم، ما أفقدها القدرة على لعب دور جامع.
  • غياب الضغط الدولي الفعّال فبيانات التنديد والوساطات لم تُترجم إلى إجراءات قسرية توقف القتال أو تفرض مساراً سياسياً.
  • تشابك المصالح الإقليمية المتمثل في الدعم عسكري ومالي من أطراف إقليمية يطيل أمد الحرب ويحوّلها إلى ساحة تنافس أوسع.

آفاق المستقبل

رغم قتامة المشهد، يبقى استشراف المستقبل ضروريا لفهم مسارات الأزمة، والسيناريوهات المحتملة تتراوح بين مزيد من الانهيار الاقتصادي وتوسّع الكارثة الإنسانية، وبين فتح محدود لمسار دبلوماسي تحت ضغط المجتمع الدولي والإقليمي.

لكن القاسم المشترك هو هشاشة الوضع، وغياب أي ضمانة حقيقية تحمي السودان من الانزلاق نحو التفكك النهائي، فالإرادة الوطنية غائبة، القوى السياسية متشرذمة، والرهانات العسكرية مستمرة، ما يجعل الحل رهناً بتدخل ضاغط يفتح الباب أمام حوار شامل يؤسس لعقد اجتماعي جديد.

الحكومة الموازية في ميزان الشرعية والواقعية

إعلان الحكومة الموازية في نيالا يمكن قراءته من زاويتين؛ فهو مناورة سياسية لإثبات الوجود، لكنه أيضاً انعكاس لحاجة ملحّة إلى إدارة الشؤون المدنية في مناطق خارجة عن سلطة المركز.

غير أن هذه الحكومة ماتزال تفتقد للشرعية الدولية، ويرى بعض الخبراء أنها تقوم على تحالف هش بين حميدتي وعبد العزيز الحلو، وهو تحالف محكوم بتاريخ من العداء والانقسام، كما أن الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي رفضا الاعتراف بها، والجيش يواصل عملياته في كردفان ودارفور.

بعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب، يقف السودان عند مفترق خطير، فالبلد ممزق بين حكومتين، وسط اقتصاد منهار، وشعب مشرّد، ومؤسسات آيلة للسقوط، والمشهد يذكّر بقوة بالسيناريو الليبي، حيث انتهى الانقسام إلى مأزق طويل الأمد، فيما يبقى المدنيون في السودان هم الخاسر الأكبر، يدفعون ثمن صراع عسكري بلا أفق سياسي.

بقلم نضال الخضري

انتعاش إنتاج النفط الليبي بإضافة 24 ألف برميل يومياً خلال أسبوعين

اقرأ المزيد