05 ديسمبر 2025

منذ أن أصدر وزير الحكم المحلي في حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، عبد الشفيع بوزلاعة، قراره بإيقاف عميد بلدية الزنتان المنتخب الطاهر أبو جناح، عاد المشهد الليبي إلى نقطة الصفر، فانكشف عجز الدولة عن حماية التجربة الانتخابية من مزاجية السلطة المركزية.

القرار الذي صيغ بعبارات بيروقراطية باردة حول “إحالة للتحقيق” و”وقف احتياطي”، حمل في جوهره دلالة سياسية عميقة، فحكومة الوحدة الوطنية ما تزال تمارس سلطة تتجاوز القانون، وتعيد إنتاج مركزية تُقصي كل محاولة لتكريس الشرعية عبر صناديق الاقتراع.

الشرعية المؤجلة

ليست الزنتان مجرد مدينة جبلية في عمق الجبل الغربي، بل هي إحدى العقد المفصلية التي شكّلت معالم ليبيا ما بعد 2011، فمنذ سقوط النظام السابق، وجدت الزنتان نفسها لاعبا لا يمكن تجاوزه، سواء عبر تشكيلات مسلّحة احتفظت بقدرة على الفعل العسكري، أو عبر شخصيات سياسية استثمرت رصيدها المحلي في مواجهة المركز، فهي ليست طرفاً منعزلا أو هامشيا، بل احتفظت دوما بمسافة تفاوضية جعلتها حاضرة في كل معادلة تخص طرابلس أو محيطها.

لكن المفارقة الكبرى أن هذه المكانة لم تُترجم إلى شرعية مؤسساتية مستقرة، فالانتخابات التي جاءت بعميد منتخب لم تحمِ المدينة من نزعة المركز إلى الهيمنة، فإقصاء الطاهر أبو جناح لا يعني فقط تعطيل تجربة محلية؛ بل يكشف أن فكرة الشرعية المحلية في ليبيا ما تزال مؤجلة، وأنها تُفرغ من مضمونها لحظة تصطدم بحدود الانقسام الوطني، هنا تتحوّل المبادرة الخدمية، كاستقبال وفد صحي من الشرق، إلى جريمة سياسية، وتتحول الإدارة المحلية إلى اختبار ولاء، لا إلى مساحة لرعاية المصلحة العامة.

هذا الانزلاق من الوظيفة الخدمية إلى المحاسبة السياسية يُظهر أن العلاقة بين البلديات والمركز ليست علاقة تعاقدية أو حتى رقابية، بل علاقة وصاية مشوبة بالشك، فالبلديات تُعامل كمناطق تماس، تُقاس أهميتها بمدى انضباطها لخطاب الحكومة المركزية، لا بقدرتها على الاستجابة لحاجات سكانها، والنتيجة أن التجربة الانتخابية، التي يُفترض أن تعكس خيار الناس في محيطهم المحلي، تتحول إلى مجرد واجهة هشة تنهار أمام أي قرار وزاري.

هشاشة البنية الإدارية

مؤشرات هذه الحادثة أعمق من مجرد خلاف إداري، لأنها توضح أن البنية المحلية في ليبيا قائمة على مركزية خانقة تجعل أي مجلس بلدي رهينة لقرارات وزارية آنية ، فالانتخابات التي شهدت لها الأمم المتحدة بالنزاهة، يتم إفراغها من مضمونها عبر منح وزير واحد صلاحية إلغاء نتائجها بقرار إداري، وبهذا الشكل تصبح البلديات بلا قيمة، والناخبون بلا صوت، والمجالس المحلية مجرد هياكل تُدار عبر التمويل المركزي، وتُعطّل عند أول إشارة سياسية.

وليس قرار الزنتان استثناء، فحين دمجت حكومة الدبيبة في الدورة السابقة بلدية تاورغاء بمصراتة، تجاهلت تاريخا مثقلا بالصراع والتهجير، ولم يكن الهدف عندها رأب صدع اجتماعي أو فتح مسار مصالحة، بل فرض ترتيبات إدارية تصب في مصلحة التوازنات السياسية، فآلاف من أهالي تاورغاء ما يزالون يعيشون كلاجئين في الشرق، بينما تُمحى بلديتهم من الخريطة تحت ذريعة “الدمج الإداري”،وهذه الواقعة تكشف أن السلطة المركزية لا تعترف بالبلديات كوحدات قائمة بذاتها، بل كمساحات يمكن إعادة تشكيلها حسب المزاج السياسي.

غياب القانون وحضور المزاج السياسي

المفارقة أن قرار إيقاف عميد الزنتان لم يصدر عن محكمة أو هيئة قضائية، بل عن وزير في السلطة التنفيذية، فتنكشف هشاشة الدولة أمام مجتمعها المحلي، فقرار الإيقاف صدر من السلطة التنفيذية مباشرة، من دون المرور عبر مؤسسات قضائية أو رقابية مستقلة،وهذه الصيغة تكشف غياب الفصل بين السلطات، وتُظهر أن المرجعية القانونية ما تزال ضعيفة أمام سلطة القرار السياسي، ويعكس أن الإدارة المحلية في ليبيا تخضع لمعايير الولاء والانقسام أكثر مما تخضع لآليات حكم رشيد أو لرقابة مؤسسية مستقلة.

عمليا ردّ الزنتان جاء واضحا عبر رفض قاطع للقرار، وتهديد بمقاطعة الوزير وقطع كل أشكال التعامل معه، وهذا الموقف لم يكن مجرد انفعال محلي؛ بل إعلان عن أن بعض المدن لا تزال قادرة على صياغة خطاب مضاد للسلطة المركزية، فهل تمثل الزنتان استثناء بفضل وزنها التاريخي والعسكري؟ وهل تستطيع بلديات أخرى، أقل نفوذا وأضعف تأثيرا، من رفض قرارات مشابهة، أم أنها ستظل خاضعة لسطوة المركز؟

أزمة ليبيا البنيوية

ما حدث في الزنتان وتاورغاء يعكس طبيعة الأزمة الليبية، فهناك سلطة مركزية هشة تقوم على توازنات سياسية مؤقتة،لكنها متفقة ضمنيا على تهميش الهياكل المحلية، والبلديات التي من المفترض أن تكون فضاء للمصالحة والتنمية، تتحول إلى أدوات بيد الحكومة في طرابلس، أو إلى ساحات مواجهة مع سكانها.

والنتيجة أن المجتمع المحلي يُترك دون مؤسسات مستقلة تحميه، فيما يستمر الانقسام السياسي في إنتاج مركزيات متجددة، لكنها عاجزة عن تأسيس دولة قانون.1

إن قرار وزير الحكم المحلي بحق عميد الزنتان ليس مجرد حادثة إدارية؛ فهو مرآة لغياب دولة القانون في غرب ليبيا، وتوضح عجز البلديات عن الدفاع عن شرعيتها أمام سلطة مركزية متقلبة، وتاورغاء، بما حملته من دمج قسري مع مصراتة، تقدم المثال الأكثر وضوحا على أن البلديات في ليبيا لا تُدار بمنطق المصالحة أو التنمية، بل بمنطق الحسابات السياسية الضيقة.

الزنتان أعلنت أنها “خط أحمر”، لكن الأزمة أعمق من حدود هذه المدينة، فالمسألة تتعلق بقدرة الليبيين على فرض احترام صناديق الاقتراع، وحماية البلديات من تغوّل المركز، ومن دون ذلك ستظل البلديات واجهات خاوية، تُستبدل قياداتها بقرارات فوقية، فيما يواصل المواطنون دفع ثمن غياب الدولة والعدالة على حد سواء.

بقلم: مازن بلال

الخطوط الجوية المغربية تناقش إمكانية استئناف الرحلات الجوية المباشرة مع ليبيا

اقرأ المزيد