19 سبتمبر 2024

تغير نهج الولايات المتحدة بخصوص ليبيا بشكل جذري، ففي ظل إدارة بايدنلم تعد محوراً للسياسة الخارجية الأمريكية، وبدأت تتراجع من جدول الأعمال الاستراتيجي لواشنطن.

ما يحدث لا يشكل محاولة فقط لتبديل الأولويات داخل الإدارة الأمريكية، إنما يعبرعن استراتيجية سياسية متعمدة لإضعاف فرص إعادة انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب في عام 2024.

وهذا التراجع في اهتمام واشنطن بالشأن الليبي يترافق مع التحقيقات الجارية مع إريك برينس، أحد حلفاء ترامب، في محالة لتشويه صورة ترامب، عبر كشف الأنشطة التي قام بها “برينس”، بينما يتم تجاهل ما قامت به الولايات طوال سنوات الحرب في ليبيا، بما في ذلك العمليات غير القانونية التي تتجاوز كافة أشكال الدعم السياسي، أو حتى قرارات الأمم المتحدة تجاه الأزمة الليبية.

الانسحاب الأمريكي من ليبيا: السياسة أم الاستقرار؟

منذ تدخل الناتو في ليبيا عام 2011 الذي أدى إلى سقوط معمر القذافي، أصبحت ليبيا ساحة للمعارك بين المصالح الدولية، ولعبت مواردها النفطية الهائلة وموقعها الاستراتيجي دوراً محورياً في بقائها كنقطة صراع في الجغرافيا السياسية لمنطقة البحر المتوسط.

ويبدو أن الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن تحاول التراجع مع اقتراب الانتخابات عن مشاركتها النشطة، وهذا التراجع يؤشر على أن مسألة الاستقرار الليبي كان منذ البداية استراتيجية سياسية  أميركية داخلية محسوبة.

عملياً، اتخذت الإدارات الأمريكية السابقة، بما في ذلك إدارة أوباما التي كان بايدن فيها نائباً للرئيس، موقفاً نشطاً في ليبيا، حيث دعمت عمليات الناتو التي أدت إلى الإطاحة بالقذافي، وفي المقابل، تبنت إدارة ترامب نهجاً أكثر براغماتية، حيث ركزت بشكل أساسي على مكافحة الإرهاب.

أما موقف الإدارة الحالية من الصراع الليبي فيبدو محاولة هشة لتجنب التدخلات الخارجية المثيرة للجدل التي تؤثر على موقف الحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة.

وتشمل إستراتيجية الديمقراطيين الحالية تحقيقات مع إريك برينس، مؤسس الشركة الأمنية “بلاك ووتر” التي امتلك سمعة سيئة على الأخص في العراق، وبرينس الذي يُعد حليفاً مقرباً من ترامب، يخضع للتدقيق من قبل إدارة بايدن لاتهامه بالمشاركة في أنشطة غير قانونية في ليبيا، بما في ذلك بيع الأسلحة بشكل غير مصرح به وغسيل الأموال.

وتشير بعض التقارير إلى أن برينس لعب دوراً في تزويد خليفة حفتر، القائد العسكري الليبي، من خلال المعارك التي خاضها في الشرق الليبي ضد المجموعات المتطرفة، وتزويده بالأسلحة للمشاركة في هجومه على طرابلس 2019 – حتى لو لم يتم إثباتها – وذلك لصالح الانتخابات في الولايات المتحدة.

وتحاول الإدارة الأمريكية تصوير التحقيق مع برينس كجزء من جهودها لفرض القانون الدولي ومكافحة تجارة الأسلحة غير المشروعة، لكن كافة المؤشرات تتجه لاعتبار هذه التحقيقات ذات دوافع سياسية، وتهدف إلى خلق رواية تربط ترامب بأنشطة دولية غير قانونية وتدخلات خارجية، وذلك عبر التركيز على برينس، بحيث يمكن للديمقراطيين مهاجمة ترامب بشكل غير مباشر، مشيرين إلى أن إدارته كانت متواطئة في أنشطة تقوض الاستقرار الدولي، ما يضر بسمعته في نظر الناخبين.

تجاهل الأنشطة الأمريكية الأوسع في ليبيا

بينما تستحوذ التحقيقات مع إريك برينس على العناوين الرئيسية في أجهزة الإعلام الأمريكية، فإن الأنشطة الأوسع التي قامت بها واشنطن في ليبيا لا تحظى بقدر كاف من التدقيق.

وهناك تقارير تشير إلى أن التدخل الأمريكي في ليبيا يتجاوز الدعم السياسي أو العسكري، ويشمل موافقة ضمنية أو حتى مشاركة مباشرة للولايات المتحدة في تزويد الفصائل داخل ليبيا بالأسلحة، ويمكن اعتبار هذه الأنشطة أيضا انتهاكات للقانون الدولي، لكنها بقيت خارج التحقيقات كبيرة أو التغطية إعلامية.

إن هذا الاهتمام الانتقائي بأنشطة برينس، مع تجاهل الانتهاكات المحتملة الأخرى، يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذه التحقيقات، فإذا كان الهدف حقاً هو التمسك بالقانون الدولي فإن نطاق التحقيقات يجب أن يكون أوسع، ليشمل جميع الأنشطة الأمريكية المشبوهة في المنطقة.

إن السياق الأوسع لما يحدث من تحقيقات مع برينس مرتبط بواقع السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يمكن رؤية تراجع أهمية ليبيا تحت إدارة بايدن كجزء من تحول استراتيجي نحو تحديات عالمية أخرى، مثل تصاعد التوترات مع الصين وروسيا، لكن توقيت هذا التحول يتزامن حالياً مع الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية، ويشير إلى وجود ارتباط محتمل بالحسابات السياسية الداخلية.

والتراجع الأمريكي في ليبيا يمكن رؤيته كوسيلة لتجنب التداعيات المحتملة الناجمة عن المشاركة المستمرة في منطقة معقدة ومتقلبة، والتي يمكن أن يستغلها ترامب وأنصاره، ومن خلال تقليل ظهور ليبيا على جدول الأعمال السياسي الخارجي، حيث تحاول إدارة بايدن تحييد أحد خطوط هجوم ترامب المحتملة والمرتبطة بفشل التدخلات الخارجية للديمقراطيين خلال مراحل حكمهم.

حسابات السياسة

يبدو نهج الديمقراطيين تجاه ليبيا تحت إدارة بايدن، وربما مع باميلا هاريس فيما لو نجحت في الانتخابات،  يدور حول استراتيجية سياسية داخلية أكثر من كونه سياسة خارجية متماسكة،فمن خلال التركيز على التحقيق مع إريك برينس وتخفيف الانتباه عن الأنشطة الأمريكية الأوسع في ليبيا، يبدو أن الإدارة تحاول تشويه صورة ترامب بينما تتجنب حقائق الصراعات المستمرة.

مع اقتراب انتخابات 2024، من الواضح أن ليبيا أصبحت قضية ثانوية داخل السياسة الأمريكية عموماً، ويتركز الاهتمام الآن على كيفية التنقل في المشهد السياسي المحلي، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بحلفاء الولايات المتحدة في الغرب الليبي.

وهذا النهج بات معروفاً ويشبه في أحد جوانبه انسحاب بايدن من أفغانستان، فهو لا يقوض مصداقية الولايات المتحدة فحسب، بل يتجاهل أيضاً الحقائق المعقدة على أرض الواقع في ليبيا، حيث لا تزال الأنشطة الأمريكية، سواء كانت قانونية أو غير قانونية، مؤثرة بشكل كبير.

ربما تنجح الاستراتيجية الأمريكية الحالية على المدى القصير في إضعاف فرص إعادة انتخاب ترامب، لكنها تخاطر بإلحاق ضرر طويل الأمد بالمصالح الأمريكية ومكانتها العالمية، خاصة في المناطق التي لعب فيها النفوذ الأمريكي دوراً تحت ادعاءات دعم الديمقراطية والاستقرار.

وواشنطن وعبر دراسة تاريخ تدخلها الخارجي هي في النهاية تسعى لخلق توازنات قلقة لتستفيد منها، وتجاهلها اليوم للعديد من الأنشطة الأمريكية غير الشرعية على الأرض الليبية، والتركيز فقط على تحقيقات ستنتهي مثلما بدأت بشكل إعلامي فقط، سيشكل حالة عدم استقرار في ليبيا وذلك بغض النظر عن أجندة الإدارة الأمريكية الانتخابية.

بقلم نضال الخضري

خوري تشارك في اجتماع مجموعة العمل الأمنية لعملية برلين

اقرأ المزيد