“أيام قرطاج السينمائية” يُعتبر أقدم مهرجان سينمائي في المنطقة العربية والقارة الإفريقية، وأثبتت الدورة 35 التي أُقيمت بين 14 و21 ديسمبر 2024 في تونس مكانتها كحدث ثقافي بارز رغم التحديات التي واجهها المهرجان هذا العام.
وسجل المهرجان 99 فيلماً تونسياً، ما يعكس تنامي الإنتاج المحلي في وقت يعاني فيه قطاع السينما من صعوبات اقتصادية، بينما تثير هذه الأرقام (مفارقة التفكير في الفيلم التونسي رقم 100)، كما يشير البعض، تساؤلات حول الفيلم “المفقود” أو غير المسجل في المهرجان، ربما كان هذا الفيلم المفقود هو المهرجان نفسه الذي لم تخلُ فعالياته من التوترات والعواطف، مما يعطيه بعداً رمزياً.
ومنذ تأسيسه في العام 1966 على يد السينمائي الطاهر بن شريعة ورفاقه، نشأ مهرجان أيام قرطاج السينمائية استجابة لمشاعر وطنية وقومية في مواجهة الروايات الاستعمارية التي هيمنت لعقود على المنطقة.
وكانت تلك البداية بمثابة انطلاق لاحتضان مهرجان ملتزم بقضايا الهوية الوطنية والعربية الإفريقية، وهو ما جعل المهرجان في طليعة المهرجانات السينمائية في المنطقة، حيث ظل مستمراً رغم التحولات العميقة في مفاهيم السينما والصناعة الثقافية.
ورغم أن هذا العام كان مليئاً بالأحداث المؤلمة والتوترات السياسية والاجتماعية، إلا أن المهرجان استمر في تقديم برنامج حافل، فمنذ بداية المؤتمر الصحافي في ديسمبر، الذي كان يعرض أفلاماً متنوعة، تسربت بعض المشاعر الغاضبة عندما اقتحمت مجموعة من النساء الصالة حاملات لافتات تطالب بالتفكير في “ضحايا التحرش” من قبل مخرج تونسي يترأس الدورة شرفياً.
وأثار هذا الحادث ردود فعل متباينة بين الصحافيين والجمهور، حيث تم التعبير عن مواقف متنوعة بين التعاطف مع المطالبات وبين الاعتراض على توقيت الاحتجاج.
ورغم التوترات، استمرت الدورة وتم تكريم الشخصيات الراحلة في مجال السينما، مثل الممثل فتحي الهداوي والمخرج قيس الزبيدي، مما أضاف لمسة حزينة على جو المهرجان.
ولم تخلُ السينما التونسية من القضايا الاجتماعية والسياسية في هذه الدورة، فالعديد من الأفلام التونسية التي عُرضت في المسابقة الرسمية تناولت مواضيع العنف، والمأساة النفسية، والتحديات التي يواجهها المجتمع التونسي بعد سنوات من الاضطراب.
وعلى سبيل المثال، فيلم “ماء العين” للمخرجة مريم جعبر، الذي يعكس معاناة عائلة ضحايا الإرهاب وعواقب الحرب النفسية على أفرادها، وفيلم “ذا ذون” للأسعد الدخيلي الذي يركز على الصراع الداخلي بين القانون والفوضى في مدينة جندوبة.
كما تطرقت بعض الأفلام إلى العزلة النفسية والاضطرابات الشخصية، مثل فيلم “حجر” للمخرج كريم بالرحومة، الذي يعكس تأثير الخوف والصدمات النفسية على حياة امرأة.
وإلى جانب هذه الموضوعات المؤلمة، شهدت الدورة توسعاً في البرامج الثقافية المجتمعية، مثل عروض السينما في الأماكن العامة مثل الشوارع والثكنات والسجون.
وكانت “سينما الشارع” واحدة من أبرز مميزات مهرجان أيام قرطاج السينمائية، حيث تم عرض الأفلام مجاناً للجماهير في الأماكن العامة، وواصل المهرجان هذا التقليد في الدورة الحالية، مما يعكس التزامه بنشر الثقافة السينمائية في أنحاء البلاد، بما في ذلك المناطق الداخلية والريفية.
كما احتفظ المهرجان بمكانته كمنصة لدعم صناعة السينما في القارة الإفريقية، حيث تم تكريم السينما السنغالية عبر عرض مجموعة من الأفلام التي أنتجت على مدار العقود الماضية.
وحرص المهرجان على تسليط الضوء على السينما الإفريقية من خلال عرض أفلام متنوعة تضم قصصاً ذات طابع اجتماعي وثقافي خاص بالمنطقة.
وبالإضافة إلى ذلك، يعكس المهرجان دوره في دعم المشاريع السينمائية الناشئة من خلال منصة “قرطاج للمحترفين”، التي تتيح للمبدعين من تونس والعالم العربي والإفريقي فرصة تطوير مهاراتهم وعرض مشاريعهم السينمائية.
وقد شهد هذا العام تقديم أكثر من 289 مشروعاً سينمائياً ناشئاً، مما يعكس اهتمام المهرجان بتشجيع جيل جديد من صناع السينما.
وأما في الجانب التقني، فقد قدم المهرجان عروضاً مبتكرة باستخدام تقنيات الواقع المعزز، التي سمحت للمشاهدين بالمشاركة التفاعلية في القصص السينمائية.
وفي الختام، يمكن القول إن الدورة 35 من مهرجان أيام قرطاج السينمائية قد مرت بتحديات وأحداث غير تقليدية، لكنها استطاعت الحفاظ على مكانتها في المشهد السينمائي العالمي بفضل التزامها بالتنوع الثقافي، والمشاركة المجتمعية، والاحتفاء بالسينما الإفريقية.
تقرير دولي يصنف ليبيا ضمن الدول “الأكثر خنقاً” لحرية التعبير