وسط انسداد المسارات السياسية وتصاعد التوترات الأمنية، تتكشف ملامح مقلقة في سلوك رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة، حيث يعتمد على وسائل القوّة الصلبة، سواء عبر تعطيل المؤسسات أو استخدام السلاح الجوي، لضمان استمرار سلطته.
بين عرقلة البرلمان وتهميش النواب، واستخدام الطائرات المسيّرة تحت غطاء أمني، يتشكّل نمط حكم ينزع عن السياسة مضمونها، ويمنح القرار الأمني والعسكري موقع السيادة، وما يحدث يطرح واقعاً يتطلب قراءة دقيقة لمسارات التحوّل في آليات الحكم، وكيفية توظيف أدوات السيطرة بعيداً عن الأطر الديمقراطية.

منع النواب من السفر: عبث بالمؤسسات أم تكتيك محسوب؟
في لحظة تتطلب أقصى درجات التعقل السياسي، يكشف عبد الحميد الدبيبة، عن افتقاره للموارد السياسية ولجوئه المتزايد لاستخدام أدوات القوّة لمواجهة خصومه، سواء في الغرب أو الشرق الليبيين، فالقرار بمنع أكثر من خمسين نائباً من المنطقة الغربية السفر إلى بنغازي للمشاركة في جلسة برلمانية حساسة، يعكس بوضوح كيف تحوّلت المؤسسات الخدمية، مثل مصلحة الطيران المدني، إلى أدوات لضبط المشهد السياسي بالقوة وليس بالتوافق.
الحادثة فجّرت موجة من الإدانات، داخل البرلمان الليبي وخارجه، وهي ليست الأولى، فسبق أن حدث الأمر ذاته عام 2022، ما يؤكد أن المسألة بعيدة عن الصدفة أو التعثّر الإداري، بل أسلوب ممنهج في التعطيل، وأدان النائب الثاني لرئيس مجلس النواب، مصباح دومة أوحيدة، بشدة هذا التصرف، ووصفه بانتهاك صريح للإعلان الدستوري وحرية التنقل، كما دعا إلى تحقيق عاجل من قبل النائب العام، كما شدد عضو البرلمان طارق المشاي على أن هذه الممارسات تمثل “عبثاً بمؤسسات الدولة” وتحويلاً لمطار معيتيقة إلى أداة للمنع السياسي.

المسيّرات: الغطاء الأمني لتصفية الخصوم السياسيين
لكن المقلق أكثر من منع التنقل، هو توظيف الدبيبة لسلاح الطائرات المسيّرة في تصفية الحسابات السياسية تحت غطاء مكافحة تهريب البشر والمخدرات، واستُخدم هذا الأمر لتبرير ضربات جوية على مواقع في الزاوية وصبراتة، طالت خصوماً بارزين بينهم محمد بحرون وبعض المجموعات المنتمية إلى قبيلة أولاد أبو حميرة، وهذه الضربات حملت أبعاداً رمزية، ورسائل تخويف واضحة، مفادها أن المسيّرات ستُستخدم كأداة حاسمة في أي صراع سياسي قادم.
وأشار وزير الدفاع الأسبق، محمد البرغثي، إلى أن هذه الطائرات تُدار من قاعدة الوطية التي تخضع للنفوذ التركي، ما يُظهر أن تحركات الدبيبة العسكرية رهينة لاتفاقات مع أنقرة، ويكشف عن مدى هشاشة استقلالية القرار السيادي لحكومته، بينما حذر مدير المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية، شريف بوفردة، من أن إدماج المسيّرات في بيئة مليئة بالميليشيات سيؤدي إلى تداعيات كارثية، خاصة في ظل غياب قواعد اشتباك واضحة.
واستخدم الدبيبة الطائرات المسيّرة عام 2023 لقصف مواقع في الزاوية، تحت ذريعة مكافحة الجريمة المنظمة، غير أن تلك العمليات، وفقا للعديد من التقارير الحقوقية، افتقرت إلى الشفافية واستهدفت أحياناً منازل مدنيين، ما يثير شبهة استخدام مفرط وغير مشروع للقوّة العسكرية.

موازنة ضخمة ومجلس مشلول
يبدو أن الدبيبة، المحصور بين ضعف الشرعية وغياب الدعم السياسي الفعلي، لا يجد في جعبته سوى أدوات الردع، فمجرد انعقاد جلسة نيابية لمناقشة الميزانية، التي تصل إلى 160 مليار دينار ليبي، بات أمراً يعتبر تهديداً، لأنه يضع حكومته تحت المساءلة، ويُضعف حجته في الاستمرار، ورغم أن أغلب النواب الممنوعين ينتمون إلى المنطقة الغربية التي يُفترض أن تكون حاضنته السياسية، إلا أن سلوكه يُشير إلى عدم ثقته بأحد، ويخشاهم بقدر ما يخشى نواب الشرق، إن لم يكن أكثر.

لكن ماذا يعني كل هذا بالنسبة للمشهد السياسي الليبي؟
هناك مشهد يُقوّض مبدأ الفصل بين السلطات، فعندما تتحوّل حكومة تنفيذية منتهية الولاية إلى جهة تُعرقل عمل السلطة التشريعية، بل وتُحوّل حق التنقل إلى ورقة ضغط سياسي، فهذا يفتح الباب أمام عسكرة السياسة وإغلاق مسارات الحوار، كما يتم تكريس منطق الدولة البوليسية، حيث تُوظف الوسائل الأمنية والعسكرية لإسكات الأصوات المعارضة بدلاً من التحاور معها.
علاوة على ذلك يتم تجاهل الاتفاق السياسي الليبي الذي يشترط موافقة 120 نائباً على الميزانية بعد التشاور مع المجلس الأعلى للدولة، فمنع النواب من الحضور يُفقد الجلسة نصابها القانوني، ويعني عملياً شلّ العملية التشريعية برمتها، وهو ما يُعد سابقة خطيرة في مسار الدولة الليبية.

في خضم أزمة اقتصادية خانقة
تأتي هذه التطورات في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، فالموازنة المقترحة التي تخصص 64 ملياراً للمرتبات، وما يقارب 55 ملياراً للدعم، تُعدّ الأعلى في تاريخ ليبيا، وذلك في ظل شلل اقتصادي، وفساد مستشري، وانقسامات سياسية حادة، والمواطن الليبي العادي، الذي يعاني من انهيار الخدمات الأساسية، يجد نفسه رهينة لهذه المناورات السياسية، ويدفع ثمن الخلافات التي تعرقل بناء دولة موحدة وفاعلة.
ما تفعله حكومة الدبيبة يُؤسّس لمرحلة جديدة من الصراع، ليس بين الشرق والغرب فقط، بل بين منطق الدولة ومنطق القوة، فعندما يُمنع النواب من أداء واجبهم، وتُستخدم المسيّرات كأدوات إخضاع سياسي، وتُخنق المؤسسات التشريعية تحت ذريعة الأمن، فإن الطريق إلى الانتخابات يصبح أكثر تعقيداً، والاستقرار أكثر بعداً.
ما تحتاجه ليبيا اليوم ليس مزيداً من القوّة، بل التزاماً حقيقياً بالحوار، واحتراماً صارماً للمؤسسات، وفصلاً حقيقياً بين السلطات، فالدول لا تُبنى بالعنف، بل بالقانون.
بقلم نضال الخضري
حاج ليبي يتحدى الصعوبات.. قصة إصرار تذهل رواد التواصل الاجتماعي
