19 ديسمبر 2025

فور إعلان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن انطلاق أولى جلسات ما سمّته “الحوار المهيكل”، انقسم المشهد الليبي على نحو حاد بين من يراه محاولة لإحياء المسار السياسي المتعثر، ومن اعتبره جولة في دائرة مفرغة أنهكت ثقة المواطنين بالعملية السياسية وبالوساطات الدولية.

لم يكن الجدل حول الفكرة، بل جدوى المسار ومصداقيته في بيئة تتسم بانقسام حاد وتوازنات هشّة لا تسمح بولادة مبادرة جامعة، ففي خلفية الانقسام، تتجدد الأسئلة القديمة حول الدور الأممي وحدود فعاليته في الأزمة الليبية، فهل يمكن لحوار يُدار من خارج موازين القوة الحقيقية أن ينتج تسوية قابلة للحياة؟ أم أن البعثة الأممية تحاول إنقاذ خارطة طريق مهددة بالفشل أكثر من إنقاذ ليبيا نفسها من مأزقها المزمن؟

الحوار الذي بدأ في العاصمة طرابلس يومي 14 و15 ديسمبر بمشاركة 124 شخصية من مختلف المناطق، يوصف من قِبل البعثة بأنه “منصة وطنية جامعة” إلا أن استقبال الليبيين له كشف أزمة ثقة عميقة بين المجتمع ومؤسساته من جهة، وبين هذه المؤسسات والبعثة الأممية من جهة أخرى.

غموض في الأهداف والمعايير

الانتقادات الأولى وجهت إلى طريقة اختيار المشاركين، فبينما أعلنت البعثة أن الاختيار تم بناء على “معايير موضوعية” تشمل النزاهة والخبرة والتفرغ، فإن أكثر من ألف شخص تقدموا بطلبات للمشاركة ورُفضوا دون توضيح، فيما لم تُنشر القائمة الكاملة إلا بعد بدء الجلسات، ما غذى الشكوك حول الشفافية.

وطرح رئيس المجلس العسكري السابق في صبراتة، الطاهر الغرابلي، تساؤلا عن سبب إخفاء أسماء المتقدمين مطالبا بنشر القوائم لمعرفة من تم استبعاده ولماذا، في وقت ذهبت المنظمة الليبية لحقوق الإنسان أبعد من ذلك ووصفت الحوار بأنه “مسار عبثي لإضاعة الوقت وشرعنة استمرار الأزمة”، ودعت المشاركين إلى الانسحاب.

تعكس هذه الانتقادات أن “الحوار المهيكل”، رغم محاولاته إظهار الانفتاح والشمول، بدأ تحت سقف من الغموض جعل شرعيته موضع شك، فالمعايير التي تحدثت عنها البعثة، مثل عدم التورط في الفساد أو انتهاك حقوق الإنسان، بدت فضفاضة، دون آلية تحقق واضحة أو إشراف مستقل، وهو ما جعلها أقرب إلى سرد مثالي منها إلى عملية اختيار شفافة قابلة للتدقيق.

مخرجات غير مُلزمة… ومخاوف من إعادة التدوير

التحفظ الأعمق على هذا المسار لا يتعلق فقط بالتمثيل، بل بجدواه السياسية، فوفق رئيس مجلس حكماء ليبيا، محمد المبشر، فإن الإعلان المسبق بأن مخرجات الحوار “غير مُلزمة” للأطراف السياسية هو بحد ذاته مؤشر سياسي خطير، فهو يعني إدارة نقاش بلا أدوات تنفيذ، وصياغة توافقات بلا كلفة سياسية على من يتجاوزها.

المعضلة الأساسية لأي مسار ترعاه الأمم المتحدة في ليبيا منذ 2015 غياب آليات التنفيذ، فالمنتديات السابقة، من ملتقى الحوار السياسي في تونس إلى مسارات برلين والصخيرات، انتهت بتوصيات رنانة دون أثر على الأرض، لأن القوى الفعلية لم تكن ملتزمة بها، أو لأنها صيغت بطريقة تسمح بتجاوزها بسهولة.

تتكرر اليوم هذه المعادلة، فالحوار المهيكل، الذي يفترض أن يستمر أربعة إلى ستة أشهر، لن يصدر عنه إلا “توصيات توافقية”، في وقت تستمر قبضة الأطراف المتصارعة على مؤسسات الدولة، وتتحكم بالقرارين السياسي والعسكري، فالحوار أنيق الشكل هشّ الأثر.

بين خطاب النوايا وموازين القوة

المبعوثة الأممية هانا تيتيه دافعت عن المسار الجديد بوصفه “ركيزة أساسية ضمن خارطة الطريق الأممية” التي أقرتها في أغسطس الماضي، مؤكدة أن الحوار يهدف إلى “توسيع قاعدة المشاركة الوطنية” و”تهيئة الظروف لانتخابات ذات مصداقية”.

ويرى باحثون مثل محمد امطيريد أن الحديث عن انتخابات في المدى القريب يتجاهل واقع الانقسام والشلل المؤسساتي، فالتحديات القائمة تفوق قدرة اللجنة على معالجتها، فإشراك دول ذات ماض سلبي في الملف الليبي ضمن اتفاقيات دعم مالي للحوار “يهدد استقلاليته”.

هذه الانتقادات تلتقي عند نقطة واحدة حول أن الحوار، في بنيته الحالية، لا يمس موازين القوة الفعلية، بل يدور حولها، فبينما تتحدث الأمم المتحدة عن “توافق وطني”، تبقى مراكز القرار الحقيقية خارج دائرة الالتزام.

ولذلك يذهب بعض المحللين إلى أن الهدف الحقيقي من الحوار ليس تحريك العملية السياسية، بل الحفاظ على شكل من أشكال الحراك يمنح البعثة ما تقدّمه لمجلس الأمن كتقدّم رمزي في تنفيذ خارطة الطريق، ولو شكليا.

ذاكرة مثقلة بالتجارب الفاشلة

منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، عاش الليبيون أكثر من عشر جولات حوار برعاية أممية وإقليمية، من الصخيرات إلى تونس وجنيف وبرلين، وجميعها انطلقت بذات العناوين عن المصالحة الوطنية والانتخابات الشاملة وتوحيد المؤسسات وانتهت دون اختراق جوهري.

السبب ليس في غياب النوايا الحسنة، بل في سوء تصميم هذه الحوارات، حيث كانت تُبنى على افتراض أن تجميع ممثلين متنوعين في قاعة واحدة كفيل بخلق توافق، دون معالجة حقيقية للبنية الانقسامية التي تغذي الصراع.

في هذا السياق، يبدو “الحوار المهيكل” استمرارا لهذا النمط، لكنه أكثر هشاشة لأنه يجري في ظل تراجع ثقة الشارع الليبي بالأمم المتحدة نفسها، فبعد إخفاق البعثة في تنظيم الانتخابات التي كانت مقررة في ديسمبر 2021، وتكرار تغيير المبعوثين الأمميين، باتت الأمم المتحدة تُرى في ليبيا بوصفها جزءا من المشكلة أكثر من كونها وسيطا محايدا.

بين الشكل والمضمون: تمثيل لا يعني تمكينا

من الناحية الشكلية، تحرص البعثة على التأكيد أن الحوار يعكس “التنوع الجغرافي والاجتماعي والثقافي”، وأن النساء يشكلن 35 في المائة من المشاركين، إلى جانب ممثلين عن الشباب وذوي الإعاقة، وهي نسب تُعرض كدليل على الشمول والتمثيل المتوازن.

لكن هذه الأرقام لا تعني الكثير إن لم تترجم إلى قدرة فعلية على التأثير في القرار، فالحوارات السابقة ضمت هي الأخرى ممثلين من مختلف الفئات، غير أن مخرجاتها صيغت في النهاية وفق توازنات القوى التقليدية، فالمشكلة ليست في غياب الصوت، بل في غياب الصدى، وإشراك فئات جديدة دون منحها سلطة تقريرية قد يفاقم الإحباط الشعبي بدلا من معالجته.

صراع الشرعيات واستمرار المرحلة الانتقالية

يأتي هذا الحوار في وقت تعيش فيه ليبيا انقساما حادا، ومع استمرار الخلاف حول القوانين الانتخابية، وتعليق التعاون بين حكومة الشرق والبعثة الأممية منذ نوفمبر، تبدو فرص توحيد المؤسسات شبه معدومة، وأي توصيات يصدرها الحوار المهيكل، مهما كانت وجاهتها، ستظل بلا سند قانوني أو تنفيذي في ظل هذا الانقسام.

تدرك البعثة محدودية أدواتها، وتحاول عبر هذا الحوار إبقاء العملية السياسية في “انعاش”، وإطالة عمر المرحلة الانتقالية دون معالجة أسبابها البنيوية، مثل غياب العقد الاجتماعي الجديد وانعدام الثقة بين المكونات السياسية.

إن الأمم المتحدة لا تملك ترف التخلي عن أدواتها الرمزية، فكل مبعوث أممي يسعى لإقناع مجلس الأمن بأن ثمة تقدما ما، ولو كان جزئيا، ويبدو “الحوار المهيكل” أكثر فائدة للبعثة منه لليبيين، لأنه يمنحها منصة لإظهار الحركة، حتى لو لم تثمر نتائج ملموسة.

لكن هذا التوظيف السياسي، كما يحذر رئيس مجلس حكماء ليبيا، يحمل كلفة على الأرض، حيث ييعمّق الإحباط الشعبي ويزيد الشك في جدوى أي مسار أممي قادم، فحين يتحول الحوار إلى غاية بحد ذاته، لا وسيلة لتحقيق التغيير، يصبح عبئا إضافيا على العملية السياسية.

الحاجة إلى مقاربة جديدة

ما يحتاجه الليبيون اليوم ليس حوارا جديدا بقدر ما يحتاجون إلى إعادة تعريف معنى الحوار نفسه، فالجدل الدائر حول المخرجات والشرعية يكشف غياب اتفاق على الأسئلة الأساسية، فمن يمثل من؟ ومن يملك الحق في اتخاذ القرار؟

يختصر الموقف الليبي العام تجاه الحوار المهيكل بين رؤيتين، الأولى متفائلة ترى فيه نافذة، مهما كانت ضيقة، لإعادة إطلاق المسار السياسي ضمن بيئة ليبية خالصة؛ والثانية متشائمة تعتبره مجرد فصل جديد في مسلسل إدارة الأزمة لا حلّها.

بين هاتين الرؤيتين، تبقى الحقيقة أن الحوار لن يُقاس بعدد الجلسات أو تنوع المشاركين، بل بقدرته على تغيير سلوك الفاعلين على الأرض، فإن ظلّ محصورا في القاعات، فسيضاف إلى قائمة طويلة من المؤتمرات التي كتبها الليبيون وقرأوها بلا أثر.

أما إذا تمكن، ولو جزئيا، من فرض منطق المساءلة وربط الكلام بالفعل، فربما يمكن القول إن ليبيا بدأت أخيرا تتحاور مع نفسها لا مع ظلها.

بقلم مازن بلال

السفير الروسي في ليبيا: الوجود الدبلوماسي الروسي في شرق ليبيا يصب في مصلحة الليبيين

اقرأ المزيد