منذ انتهاء حرب التحرير الجزائرية عام 1962، والعلاقة بين الجزائر وفرنسا تُراوح بين دفء المصالح وبرودة الذاكرة، فكل خطوة إلى الأمام في مسار المصالحة تُقابل بتشنّج يعيد التذكير بماضٍ مثقل بالدم والهيمنة.
بعد تصويت البرلمان الفرنسي مؤخرا على لائحة تُدين اتفاق الهجرة الموقّع عام 1968، يجد البلدان نفسيهما مجددا في مواجهة أزمة تعكس عمق التعقيد في علاقتهما، حيث تختلط السياسة بالتاريخ، والمصالح بالكرامة الوطنية.
من اتفاق 1968 إلى صدام 2025
كانت اتفاقية الهجرة الموقعة في 27 ديسمبر 1968 نتيجة سياق خاص، ففرنسا الخارجة من حرب التحرير كانت بحاجة ماسة إلى يد عاملة لإعادة بناء اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، فيما كانت الجزائر المستقلة تبحث عن منافذ لتصريف فائضها البشري نحو أوروبا، ووُضعت الاتفاقية لتنظيم دخول 35 ألف عامل جزائري سنويا، لكنها تحولت مع الزمن إلى ركيزة قانونية منحت الجزائريين امتيازات استثنائية مقارنة بباقي المهاجرين، أبرزها تسهيلات الإقامة والعمل ولمّ الشمل.
غير أن هذه الاتفاقية، التي كانت في جوهرها أداة تعاون، أصبحت اليوم في نظر أطياف من اليمين واليمين المتطرف الفرنسيين رمزا لـ”تمييز إيجابي غير مبرر”، فنجح حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان في تمرير لائحة تدين الاتفاق بفارق صوت واحد، وهو ما اعتُبر نصرا سياسيا يكرّس صعود التيار الشعبوي في فرنسا، ويعبر عن تحول عميق في المزاج العام تجاه الهجرة.
من جهة أخرى، لم تخفِ الجزائر استياءها، وإنْ حاولت إلباس الموقف طابعا رسميا هادئا، فوزير الخارجية أحمد عطّاف اعتبر أن ما يجري هو “سباق انتخابي فرنسي مبكر”، في إشارة إلى اقتراب انتخابات 2027، مؤكدا أن الجزائر لن تتفاعل رسميا ما لم يتحول القرار إلى موقف حكومي ملزم.
لكن خلف هذا الخطاب المتّزن، ثمة غضب مكتوم يرى في الخطوة الفرنسية إهانة لملايين الجزائريين المقيمين في فرنسا، ونسفا لركائز العلاقة التي كانت بالنسبة للطرفين “خصوصية تاريخية”.

الجزائر بين استثمار الذاكرة وهواجس الحاضر
في الجزائر عاد النقاش في مواجهة هذه التطورات نحو مطلب قديم جديد هو قانون تجريم الاستعمار الفرنسي، وهو مقترح ظل حبيس الأدراج منذ عام 2005 حين ردّ البرلمان الجزائري على قانون فرنسي مجّدَ “الوجود الإيجابي للاستعمار”، وبعد تصويت باريس على إدانة اتفاقية 1968، ارتفعت أصوات داخل المجلس الشعبي الوطني تطالب بإحياء المشروع بوصفه ردا رمزيا ووطنيا.
ممثل المهاجرين في فرنسا، النائب عبد الوهاب يعقوبي، اعتبر الخطوة الفرنسية “إشارة سياسية خطيرة تقوض الأسس الإنسانية للعلاقة بين الشعبين”، ودعا إلى “إعلاء صوت العقل والحوار”، أما قيادات من أحزاب إسلامية مثل “حركة مجتمع السلم” و”النهضة” فطالبت بمعاملة فرنسا “بالمثل وبالندية”، وربطت الأمر بذكرى ثورة نوفمبر 1954، ما أضفى بعدا وطنيا عاطفيا على الجدل.
هذه المزايدة السياسية، وإن كانت تعبّر عن حساسية حقيقية في الوجدان الجزائري، لكنها تكشف أيضا عن مفارقة عميقة، فالجزائر الرسمية لا تبدو راغبة في مواجهة مفتوحة مع باريس، واقتصاديا، تبقى فرنسا أحد أكبر المستثمرين في الجزائر، لا سيما في قطاعات الطاقة والنقل والتعليم العالي، كما أن باريس تمثل بوابة حيوية أمام الجالية الجزائرية التي تتجاوز خمسة ملايين شخص، وتشكل رافدا اقتصاديا مهما عبر التحويلات المالية.
الجزائر لا تستطيع أن تغلق الباب في وجه فرنسا، حتى وهي ترفع في وجهها شعار “تجريم الاستعمار”.

فرنسا بين عقدة الماضي وضغط الداخل
أما فرنسا، فهي الأخرى أسيرة تناقضاتها، فمن جهة، يدرك الرئيس إيمانويل ماكرون أن أي قطيعة مع الجزائر ستكون مكلفة اقتصاديا واستراتيجيا، خصوصا بعد أن تحولت الجزائر إلى شريك طاقي مهم عقب أزمة الغاز الروسي، ومن جانب آخر يواجه ماكرون ضغطا سياسيا متصاعدا من اليمين المتطرف الذي يستثمر في خطاب الهوية والذاكرة.
أصبحت الجزائر، بالنسبة لليمين الفرنسي، مرآة لأزمة الهوية الوطنية الفرنسية، فكلما تصاعد التوتر الاجتماعي أو الأمني، يُعاد فتح ملف الهجرة الجزائرية بوصفه “جذر العلة”، وجاءت تصريحات الكاتب والسياسي اليميني إريك زِمور التي اتهم فيها الجزائر بـ”شن حرب ضد فرنسا عبر الهجرة” لتؤكد كيف يُستعمل التاريخ كأداة تعبئة انتخابية لا كمجال للمراجعة العقلانية.
لكن باريس ليست بريئة، فبين خطاب رسمي يدعو إلى المصالحة، وممارسات إدارية تُضيّق على المهاجرين الجزائريين في التأشيرات والإقامات، هناك فرق واضح، فباريس فرنسا تريد من الجزائر أن تكون شريكا في ضبط الهجرة غير الشرعية، لكنها في الوقت ذاته ترفض الاعتذار عن جرائم الحقبة الاستعمارية، وتتباهى أحيانا بـ”إرثها الثقافي” في مستعمراتها السابقة، وهذه الازدواجية تجعل من أي حديث عن “علاقات متوازنة” مجرد شعار دبلوماسي.

أزمة هوية مزدوجة
الخلاف بين الجزائر وفرنسا لا يمكن اختزاله في اتفاقية هجرة أو في قانون برلماني، لأنه نزاع هويات قبل أن يكون نزاع مصالح، فالجزائر، التي بنت هويتها الوطنية الحديثة على مقاومة المستعمر، لا تزال تجد في فرنسا مرآة لذاتها؛ عدوا قديما ومصدرا حضاريا في آن واحد، أما فرنسا، فتتعامل مع الجزائر بوصفها “الجرح الذي لم يندمل” في تاريخها الجمهوري، فهي دولة تذكّرها دائما بأنها لم تتجاوز بعد عقدة الاستعمار.
ولذلك، فإن كل أزمة بين البلدين تُستحضر فيها رموز الماضي، من إيفيان إلى ديغول، ومن حرب التحرير إلى ملف الذاكرة، وتُختزل العلاقة في ثنائية “الظالم والمظلوم”، أو “المتحضّر والمقهور”، في حين أن الواقع المعاصر يفرض مقاربة مختلفة، تقوم على المصلحة لا على الوجدان.
ما وراء الخطاب: من الهجرة إلى الاقتصاد
رغم الطابع الرمزي لتصويت البرلمان الفرنسي، فإن تداعياته المحتملة ليست بسيطة، فإلغاء أو تعديل اتفاقية 1968 يعني إدخال الجزائريين ضمن القانون الفرنسي العام، ما سيؤثر على نحو مليون شخص يقيمون في فرنسا بشكل قانوني، كما يفتح الباب أمام أزمة دبلوماسية إذا ما ردت الجزائر بإجراءات مماثلة، مثل تقييد تصاريح القنصليات أو الحد من التعاون الأمني.
لكن في المقابل، تدرك فرنسا أن التوتر مع الجزائر يضر بمصالحها الاستراتيجية في شمال إفريقيا والساحل، حيث تلعب الجزائر دورا مؤثرا في ملفات الأمن والطاقة والهجرة، أما الجزائر، فهي بدورها تحتاج إلى باريس كشريك اقتصادي وتكنولوجي في ظل تحديات داخلية متزايدة.

من ذاكرة الصراع إلى واقعية الشراكة
لا الجزائر قادرة على طيّ صفحة فرنسا، ولا فرنسا قادرة على تجاوز عقدة الجزائر، فالدولتان محكومتان بجغرافيا التاريخ التي لا ترحم، ومع ذلك، فإن الطريق نحو علاقة سوية لا يمر عبر تبادل الاتهامات أو نبش الأحقاد، بل عبر إعادة تعريف المصالح المشتركة بلغة متوازنة، تعترف بالذاكرة لكنها لا ترتهن لها.
ما يحتاجه الطرفان شجاعة سياسية تُقر بأن زمن الاستعمار انتهى، وأن زمن الشراكة الندية لم يولد بعد، وفي غياب هذه الشجاعة، ستظل العلاقة الجزائرية–الفرنسية ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الانتخابية في باريس، وللمزايدات الوطنية في الجزائر.
إن المنطق الغائب هو أن كلا الطرفين يطالب الآخر بالاحترام من دون أن يمارس الاحترام فعلا، فالجزائر تريد أن تُعامل جاليتها في فرنسا كمواطنين من “الدرجة الأولى”، لكنها لا تتقبل فكرة أن سيادة فرنسا تمنحها حق تعديل قوانينها، وفرنسا تدّعي الدفاع عن مبادئ الجمهورية والمساواة، لكنها في الواقع تمارس تمييزا سياسيا على أساس الذاكرة.
بقلم مازن بلال
الجزائر.. 9 قتلى و10 جرحى في حادث انقلاب مأساوي
