يطرح زعم أوكرانيا دعمها الصريح للجماعات المسلحة المتطرفة في مالي مسائل متعددة، فهي لا تملك بشكل مباشر مصالح واضحة داخل مالي أو غيرها من الدول الإفريقية، وتعيش أيضا أزمة داخلية نتيجة سياساتها الأوروبية، رغم ذلك، تتباهى بدعم الإرهاب في منطقة تحاول تسعى للتخلص من آثار الاستعمار.
جاء قطع العلاقات بين مالي وأوكرانيا على خلفية إعلان كييف دعم الإرهاب وذلك بعد تصريحات أدلى بها مسؤولون أوكرانيون تعترف بشكل ضمني بدعمهم للمجموعات المسلحة التي نفذت هجمات إرهابية ضد قوات الدفاع والأمن المالية، وأسفرت عن خسائر بشرية ومادية جسيمة.
وتعود جذور هذا القرار إلى التصريحات التي أطلقها أندريه يوسوف، المتحدث باسم الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، التي اعترف خلالها بتورط بلاده في الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة تينزاواتين الواقعة في شمال مالي، ما دفع الحكومة في بامكو إلى إعادة تقييم علاقاتها الدبلوماسية مع كييف، لتصل إلى قرار القطيعة الكامل.
كييف برداء الاستعمار أوروبي
يشير البيان الصادر عن الحكومة المالية إلى تصريحات يوري بيفوفاروف، سفير أوكرانيا لدى السنغال، التي عززت الادعاءات بدعم أوكرانيا للإرهاب الدولي، خصوصا في مالي، فهناك اعتراف رسمي وواضح من الحكومة الأوكرانية للإرهاب، وهو ما دفع مالي لاتخاذ عدة تدابير استثنائية، بما في ذلك إحالة تصريحات المسؤولين الأوكرانيين إلى الجهات القضائية المختصة، وتنبيه الهيئات الإقليمية والدولية بتورط أوكرانيا في دعم الإرهاب، كما دعت مالي المجتمع الدولي للوقوف معها في مواجهة “الأعمال التخريبية” التي تهدد استقرار القارة الإفريقية.
الرد الأوكراني جاء مشابها لأي تبرير أوروبي أو أمريكي للتدخل في شؤون الدول، حيث ادعت بأنها تدعم الجماعات المسلحة في مالي من أجل “حماية حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب”، وهذا النوع من التماهي ما بين الخطاب الأوكراني والغربي عموما يوضح أن السياسات الأوكرانية مدفوعة بعوامل تعود إلى تراجع النفوذ الغربي في مناطق الساحل الإفريقي، ومرتبطة بإغلاق القواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية في المنطقة، فالتصعيد الأخير في مالي مرتبط بشكل مباشر بالتراجع الذي يشهده الغرب في القارة، ولا علاقة له بأي مصالح أوكرانية حيث تقوم حكومة كييف بتنفيذ سياسات غربية بالكامل.
إرهاب في مالي الراغبة بالتحرر
جاءت الهجمات الإرهابية التي زعمت أوكرانيا دعمها في مالي بعد أن أعلنت الأخيرة تخليها عن اللغة الفرنسية كلغة رسمية في البلاد، بعد أن تمكنت من طرد الاستعمار الفرنسي لعد نهوض حركات التحرر الوطنية، الأمر الذي تسبب بفراغ أمني حاولت فرنسا توسيعه أملاً بالعودة إلى مستعمراتها التي نهبت، على مر عقود، ثرواتها.
وشكلت مالي دافعة قوية لدول إفريقية أخرى مجاورة للتخلص من الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي برز خلال العام الحالي، فطردت النيجر القوات الفرنسية، والقوات الأميركية، ونشأ تحالف أمني بين الدول المتحررة، بدعم من روسيا التي مدت يد العون لهذه الدول على مبدأ الحفاظ على سيادتها.
صور استعمارية جديدة
يأتي الدعم الأوكراني للجماعات المتطرفة في مالي كنسق جديد للسياسات الأوروبية في إفريقيا، فالتواجد الغربي في القارة لم يبدأ مع السفن والبنادق فقط، بل بدأ مع نهاية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، حيث تحول الاهتمام الأوروبي من تجارة العبيد إلى استغلال الموارد الطبيعية، فهو استراتيجية متكاملة ظهرت في مؤتمر برلين (1884-1885) الذي كان نقطة بداية هذا العهد، حيث تقاسمت القوى الأوروبية القارة دون اعتبار للبنية الاجتماعية والثقافية الأصلية، ما تسبب في اضطرابات دائمة.
عمليا فإن العامل الأوكراني هو هامش ضيق في الصراع داخل القارة، فالجذور الأساسية للتوتر الحالي أسسها الغرب في مرحلة التمدد الاستعماري خلال القرن التاسع عشر؛ عندما لم تكن أوكرانيا موجودة بعد على الخارطة، فجمهورية مالي التي تواجه اليوم دعم كييف للمجموعات المسلحة، وقعت تحت سيطرة فرنسا في عام 1893، وتعرضت لاستغلال شديد على يد المستعمرين، وتم فرض نظام اقتصادي يخدم الاحتياجات الفرنسية، حيث استُغلت الموارد الطبيعية كالذهب والقطن دون الاستثمار في البنية التحتية المحلية أو تحسين ظروف العيش للسكان.
سياسات فرنسا الاستعمارية
استخدمت فرنسا التنوع العرقي في جمهورية مالي بشكل خاص، وهذا الأمر أسس لاحقا لحركات التطرف التي نرى آثارها الآن، وقامت بالسيطرة الثقافية عبر استخدام اللغة الفرنسية للتعليم، وهو ما خلق فجوة واضح ما بين المدن التي كان النفوذ الثقافي قويا فيها والأطراف التي كان هم الفرنسيين فيها محصورا باليد العاملة الرخصة التي استخدمتها في استنفاذ موارد البلاد.
بحلول منتصف القرن العشرين، كانت الحركات الوطنية في مالي تكتسب زخما، وذلك بعد الوعود بالحكم الذاتي وتقرير المصير التي أُعلنت في مؤتمر الأطلسي عام 1941، ورغم ذلك، كانت الطريق إلى الاستقلال شاقة حيث واجه الناشطون القمع والاستغلال المستمر، وجاء استقلال مالي في عام 1960 ليواجه أبناؤه التداعيات الخطيرة التي خلفها الفرنسيون، فالاستقلال لم يكن نهاية المعاناة؛ بل بداية عهد جديد من التحديات، حيث كانت البنية الاقتصادية التي أنشأها الفرنسيون تعيق التنمية الاقتصادية المستقلة في مالي، واستمرت الدولة في الاعتماد بشكل كبير على الصادرات الأولية، كما أثرت الحدود التي رسمها الاستعمار بشكل عشوائي على الاستقرار السياسي في المنطقة، ما أدى إلى نزاعات داخلية ماتزال مستمرة حتى اليوم، وتشكل بؤر توتر تسعى الدول الغربية لاستغلالها بشكل مباشر، أو عبر شكل يشبه ما قامت به أوكرانيا حاليا من دعم للمتطرفين في مالي.
الغرب والاستثمار في التطرف
ادعاءات أوكرانيا بانها تدعم “حقوق الإنسان” عبر دعمها للمجموعات المتطرفة يشكل امتدادا للسياسات الفرنسية والغربية عموما في القارة الإفريقية، حيث لجأت إلى استغلال المتطرفين لضرب حركات الاستقلال، وهو ما أدى لاحقا لظهور جماعات متطرفة مثل “أنصار الدين” و”جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا”، ودعم هذه الجماعات بالمال والسلاح كان جزءا من استراتيجية القوى الاستعمارية لزعزعة استقرار الحكومات المستقلة حديثا، ومنعها من تحقيق استقرار وتنمية حقيقيين.
لم تكن فرنسا بعيدة عن هذه الاستراتيجيات، حيث تشير الوثائق والتقارير إلى تورطها في دعم بعض الجماعات المتطرفة لضمان مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، ففرنسا كانت تدعم الجماعات المسلحة التي تقاتل ضد الحكومات التي تحاول التخلص من الإرث الاستعماري، وذلك من خلال توفير الدعم اللوجستي والمادي لتلك الجماعات، واستخدمت فرنسا نفس الاستراتيجية خلال حرب الاستقلال (1954-1962) في الجزائر، فدعمت بعض الفصائل المتطرفة داخل المجتمع الجزائري لتقويض جهود جبهة التحرير الوطني، ما أدى إلى تأجيج الصراع الداخلي وزيادة العنف.
تقدم الأحداث السياسية المتسارعة بين مالي وأوكرانيا صورة مطورة عن طبيعة الاستراتيجية الغربية تجاه دول الساحل، فرغم أن دعم كييف للجماعات المسلحة في مالي يبدو في شكله خارج السياق، ومن دولة منهكة نتيجة سياسة حكومتها، لكنه في النهاية ينقل استخدام أوروبا والولايات المتحدة لأدوات مختلفة لتكريس نفوذها، فهي استخدمت أوكرانيا سابقا لمواجهة روسيا، وتستخدمها اليوم في إفريقيا بعد تقلص نفوذها داخل دول الساحل وضد كل المحاولات الإفريقية من أجل بناء سيادتها.
مازن بلال
تقرير: شمال إفريقيا تواجه تحديات في تحقيق أهداف الطاقة المتجددة