09 يناير 2025

تتعمق الأزمة السياسية الليبية عبر الجدل بين الرئيس المؤقت للمجلس الرئاسي، محمد المنفي، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح عيسى، حول من يحمل لقب “القائد الأعلى” للقوات المسلحة، ويصور هذا الخلاف صراعات أعمق على السلطة.

الخلافات الليبية والانقسام السياسي الذي ظهر منذ سقوط معمر القذافي عام 2011، أوجد حكومتين في الغرب والشرق تتنافسان على الشرعية.

وفي الغرب هناك المجلس الرئاسي الذي يتخذ من طرابلس مقرا له، حيث ظهر بموجب الاتفاق السياسي الليبي الذي رعته الأمم المتحدة عام 2015، ويترأس محمد المنفي حالياً هذه المؤسسة السياسية، ويمتلك بحسب ادعائه سلطة الإشراف على العمليات العسكرية كجزء من تفويضه الأوسع للمصالحة الوطنية والحكم.

أما في الشرق فيؤكد مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح، الذي انتخب في عام 2014 ومقره طبرق، أنه صاحب السلطة الشرعية في قيادة الجيش.

وفي عام 2015 عين مجلس النواب خليفة حفتر قائدا للجيش الوطني الليبي، ما عزز دوره كزعيم عسكري في الشرق، ورغم تمتع حفتر بسلطة كبيرة، فإن مطالبة عقيلة صالح بالقيادة العليا تؤكد على الصراع حول شرعية المؤسسات السياسية الليبية.

ادعاء المنفي: سعياً وراء المجد؟

تثير محاولات محمد المنفي لوضع نفسه كقائد أعلى للقوات المسلحة الدهشة، فهي تقدم طموحا شخصيا بالدرجة الأولى فنفوذ المجلس الرئاسي في الأمور العسكرية لا يُذكر، وخاصة في غرب ليبيا التي يحكمها واقع خاص مع وجود الميليشيات التي تعمل بشكل منفرد ودون تنسيق أو إشراف من قبل مؤسسات الدولة، فمحمد المنفي استند إلى خطوة رمزية ظهرت عبر اجتماع عقد مؤخرا لقادة القبائل والشيوخ في طرابلس، وتم خلالها لتأكيد على دور المجلس الرئاسي باعتباره القائد الأعلى للجيش.

عمليا فإن الإعلان الذي صدر عن الاجتماع السابق يحاول الاستناد إلى اتفاق جنيف السياسي لعام 2021 لتأكيد شرعية قائد الجيش، لكنه في المقابل يفتقر إلى القدرة العملية على أرض الواقع، فالمجلس الرئاسي غير قادر على فرض إرادته على الجماعات المسلحة في طرابلس وخارجها، وهو ما يجعل ادعاءات المنفي بقيادة الجيش هشة لأبعد الحدود، كما أن الصراع المستمر بين المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية  المنتهية الولاية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، يضعف سلطة المجلس بشكل كبير.

ويبدو إن إصرار المنفي على هذه القضية هو انعكاس صارخ لمحاولة تعزيز مكانته الشخصية في الساحة السياسية الليبية، وبصفته رئيسا مؤقتا لهيئة انتهت ولايتها؛ فإن قدرته على التأثير على المشهد العسكري أو الديناميكيات السياسية الأوسع ضئيلة، ومن خلال المطالبة بالقيادة العليا فإن المنفي يضع نفسه كشخصية جامعة بينما في عمق تحركاته يسعى وراء المجد الشخصي.

عقيلة صالح والإرث التشريعي

في الشرق يستمد عقيلة صالح سلطته من مجلس النواب الذي يبقى آخر هيئة تشريعية منتخبة في ليبيا، وذلك رغم مرور أكثر من عقد على هذه الانتخابات، فحديث عقيل صالح حول مسألة القيادة العليا للجيش يستند إلى تعديل دستوري يمنحه هذا اللقب وأقره مجلس النواب، وتتماشى هذه الخطوة مع الجهود الأوسع التي تبذلها الحكومة في الشرق لتعزيز السلطة تحت لوائها، بما في ذلك تعيين خليفة حفتر قائدا للجيش الوطني الليبي.

عمليا فإن مطالبة صالح بقيادة الجيش تسعى إلى التمسك برمزية خاصة للشرعية في الغرب الليبي، لكنها تفتقر إلى القدرة العملية في التأثير على أرض الواقع، فسلطة الجيش في الشرق بقيادة حفتر لا جدال فيها، وتعمل القوات المسلحة الوطنية الليبية بشكل مستقل إلى حد كبير عن إشراف المجلس الرئاسي، والمطالبات التي يطلقها عقيلة صالح هي أحد أشكال الصراع مع مجلس النواب ومحاولة لفرض شرعية المجلس الرئاسي، وهذا الأمر يؤدي إلى تفاقم الخلاف حول المؤسسات بين مراكز القوى المتنافسة في ليبيا.

في عمق ما يجري على الساحة الليبية يبدو النقاش حول من يحمل لقب القائد الأعلى للقوات المسلحة جزء من الأزمات السياسية الأعمق في ليبيا حيث يعبر عن التشرذم المؤسسي.

فالنزاع المستمر بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب يقوض الجهود الرامية إلى توحيد البلاد وإرساء حكم مستقر، كما أن التنافس الطويل يؤدي إلى فقدان الثقة بالمؤسسات الليبية بسبب عجز النخب السياسية عن معالجة القضايا الملحة مثل الأمن والركود الاقتصادي ونقص الخدمات الأساسية.

والجانب الآخر من هذه الأزمة يظهر في مسألة المصالحة الوطنية، فالمجلس الرئاسي ومجلس النواب يتحدثون عن دعم المصالحة الوطنية، لكن التنافس السياسي بينهما يعيق هذه المصالحة، وعدم وجود توافق في الآراء بشأن قضايا الحكم الرئيسية، بما في ذلك الإشراف العسكري، يعمق الانقسامات ويؤثر على الجهود الدولية للتوسط في حل سياسي، حيث تواجه الأمم المتحدة التي أعلنت مؤخرا عن خطط لتشكيل لجنة فنية للإصلاح الانتخابي والحكم، معركة شاقة في التعامل مع التنافسات بين الأطراف الليبية.

ويرمز الصراع بشأن قيادة الجيش في جوهره إلى التحديات الأوسع التي تواجه ليبيا، فالتنافس بين حكومتي الشرق والغرب مع وجود ميليشيات قوية في طرابلس تملك شبكة مصالح مع الدول الغربية؛ يكرس الانقسامات، ولكي تتحرك ليبيا إلى الأمام، فإن الأولوية يجب أن تتجه للإصلاحات الجوهرية بما في ذلك معالجة القوانين الانتخابية، وتوحيد المؤسسات الوطنية، وتعزيز الحوار بين الفصائل المتنافسة.

إن التنافس بين محمد المنفي وعقيلة صالح عيسى على موقع القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية تؤكد الانقسامات الدائمة داخل الهياكل السياسية والعسكرية في البلاد، فسعي المنفي للحصول على اللقب يعكس طموحات شخصية، ومطالبة صالح بهذا الموقع تسلط الضوء على تعزيز المؤسسات في الشرق، وهذا النقاش في النهاية لا يحمل أهمية عملية كبيرة في مواجهة تحديات الحكم الأوسع نطاقا في ليبيا التي تكافح داخل مشهد سياسي ممزق، فقضية القائد الأعلى هي تذكير بالحاجة الملحة إلى المصالحة الوطنية والإصلاح المؤسسي، وبضرورة وجود رؤية موحدة للمستقبل.

بقلم: مازن بلال

يوم إفريقيا: استعادة الهوية ومواجهة المركزية الغربية

اقرأ المزيد