26 ديسمبر 2024

تعكس مبادرة ستيفاني خوري لدمج الحكومتين المتنافستين في ليبيا مخاطرة متعمدة؛ لا تعكس حلاً سياسياً واضحاً إنما تحاول جعل الإنقسام جزء من التكوين السياسي الليبي.

يوضح أسلوب تعامل نائبة الممثل الخاص للأمين العام للشؤون السياسية في ليبيا، ستيفاني خوري، حالة من عدم التكامل بين الفئات السياسية في ليبيا، فإيجاد حل للأزمة السياسية الليبية وفق أسلوب خوري الذي يحمل ضمناً رؤية الولايات المتحدة، ينقل نهجاً مضللاً من جانب الإدارة الأمريكية لأنه لا يحاول الدخول في اتجاهات الشارع الليبي بل يعتمد على تكريس الشخصيات القائمة حالياً في الغرب الليبي، فـ”توحيد الفصائل” ليس الحل لأنه لا يقوم على رؤية سياسية، بل يستند إلى جمع مصالح النخب الحاكمة بدلاً من تكريس شرعية للمؤسسات قائمة على انتخابات تجسد ما يريده الليبيون.

جذور الأزمة.. الانقسام السياسي

منذ سقوط النظام السياسي الليبي عام 2011 غرقت ليبيا في فوضى سياسية وصراعات أهلية وانقسامات بين حكومتين، فالتنافس السياسي القائم حالياً لا يعود لخلافات في البرامج السياسية، إنما لتناقض صارخ بين الشرق الذي يعتمد على مفهوم الدولة العميقة وقدرة مؤسساتها في الحفاظ على الحقوق، وبين حكومة الغرب، بقيادة عبد الحميد دبيبة، التي تستند لشبكة مصالح بين النخب الحاكمة ومجموعات مسلحة متفرقة ومتصارعة، فالمسألة ليست انقسام لمؤسسات الدولة إنما تناقض بين مشروع سياسي في الشرق وقوى الأمر الواقع في الغرب التي تمثلها الفصائل العسكرية والمصالح السياسية المختلفة داخل حكومة طرابلس، وتبدو مبادرة خوري، التي تقترح دمج الحكومتين في كيان واحد خطوة عنوانها العريض محاولة لـ”الوحدة الوطنية”، لكنها في العمق تجاوز لطبيعة الأزمة القائمة، وتكريس لزعامة سياسية في الغرب الليبي تستند في بقائها على عدم الاستقرار القائم عبر تحالف السياسيين مع مجموعات مسلحة ليست مهتمة بالاستقرار في ليبيا.

عملياً فإن دمج الحكومتين ليس محاولة حقيقية للتوحيد بل هو “صفقة لتقاسم السلطة” تعزز مصالح النخب الحاكمة في كل من شرق وغرب البلاد، وهذا ما يؤكده عضو مجلس النواب الليبي، جلال الشويهدي،  الذي رأى في مبادرة خوري اقتراحاً لا يخدم سوى ترسيخ الانقسام المؤسسي الحالي، لأنه يسمح للفصائل السياسية المتنافسة بالحفاظ على نفوذها مع تجنب القضية الحاسمة المتمثلة في الانتخابات، وهو ما يقوض  بشكل مباشر الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار السياسي الطويل الأجل والمصالحة الوطنية.

صفقة تقاسم السلطة السياسية

ينظر العديد من الساسة والمحللون الليبيون إلى مبادرة خوري باعتبارها ترتيباً لتقاسم السلطة؛ تستفيد منها النخب على حساب الشعب الليبي، فالاقتراح يشكل تسوية سياسية قصيرة الأجل تم وضعها للحفاظ على الوضع الراهن وليس حلا ًللمشاكل الأساسية، ففي ظل الوضع الذي يطالب فيه غالبية الليبيين بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، فإن مبادرة خوري تشكل تشتيتاً للجهود السياسية يؤخر أي إصلاحات حقيقية تمهد إلى بداية الحل السياسي.

في التحليل الأولي لفكرة دمج الحكومتين وفق نهج خوري محاولة واضحة لتجنب إجراء انتخابات تكرس المشهد السياسي الليبي، وتؤسس لاستقرار يستند إلى شرعية واضحة ومدعومة من قبل الأطراف السياسية، وتذهب مبادرة خوري إلى تحقيق مصالحة بين الأطراف السياسية على أساس ما هو قائم حالياً من تناقضات، ففكرة دمج الحكومتين دون إجراء انتخابات أو معالجة النزاعات الجارية بشأن قوانين الانتخابات في ليبيا هي حالة تضليل سياسي، تسعى لاسترضاء مصالح جهات سياسية عبر تقاسم السلطة والهروب من استحقاق صعب لكنه ضروري من خلال انتخابات تكرس الاستقرار الليبي على شرعية دستورية حقيقية، فتقاسم السلطة الذي تطرحه خوري هو تعميق للانقسام الحالي وإنهاء أي مشروع سياسي باتجاه تأسيس دولة ليبية قوية.

أحد أهم النتائج التي ستؤدي إليها فكرة خوري عبر دمج حكومتي الشرق والغرب هو تأخير العملية الانتخابية، ومن الممكن أن يؤدي هذا المسار إلى تعطيل أي حل آخر عبر الانتخابات التي تُعد الطريق الشرعي الوحيد لاستعادة الاستقرار السياسي في ليبيا، فأزمة ليبيا الأساسية بدأت بتأجيل هذه الخطوة الجوهرية التي كانت مقررة في عام 2021، لكن التأخير المتكرر ترك البلاد في حالة من الغموض السياسي، ودمج الحكومتين سيصرف الانتباه عن العملية الانتخابية ويلغي استحقاق وضع جدول زمني واضح لإجراء الانتخابات.

تركز خطة خوري على تقاسم السلطة بين النخب المتنافسة، في المقابل لا تحاول معالجة الإحباطات المتزايدة للشعب الليبي الذي ينتظر منذ سنوات للمشاركة في العملية الديمقراطية، فهي تعطي الأولوية لمصالح النخبة السياسية على حساب رغبة الليبيين للديمقراطية، وفي نفس الوقت تشوه على المدى البعيد من أي احتمال للعملية الانتخابية، لأنها ستجعل من مراكز القوى السلطة عاملا ًمؤثراً على أي انتخابات مقبلة، وهي توضح أيضاً أن الولايات المتحدة لا تبحث عن حل للأزمة الليبية بل تريد شخصيات سياسية في السلطة لتمرير مصالحها.

خطة خوري وزيادة الانقسام

أحد أهم المخاطر التي يحملها المشروع الأمريكي لليبيا عبر خطة ستيفاني خوري هو تعزيز التفتت المؤسساتي، فدمج حكومتين متنافستين دون معالجة الأزمة المؤسسية الأوسع، سيؤدي إلى سيناريو يحمل معه استمرار عمل كل فريق بشكل متناقض مع الآخر، حيث يحتفظ كل منهما ببيروقراطيته وقوات الأمن والشبكات الاقتصادية الخاصة به، وبدلاً من إنشاء حكومة وطنية موحدة سيتفاقم الانقسام، ويؤدي إلى بنية هجينة تعمل على إدامة الفوضى وإضعاف احتمالات الإصلاح الحقيقي للحكم.

تعمد تشويه المشهد السياسي

تعكس مبادرة خوري، ومن ورائها استراتيجية الولايات المتحدة في ليبيا، تعمداً في تشويه الديناميكيات السياسية الليبية، فالحكومتين ليستا مجرد حالة تنافس سياسي فقط؛ بل تمثلان رؤى متناقضة لمستقبل ليبيا، فالحكومة في طرابلس متحالفة مع الفصائل والميليشيات الإسلامية، في حين تحظى الحكومة الشرقية بدعم من قوى أكثر علمانية، ولا يمكن التوفيق بين هذه الانقسامات بسهولة، ولا يؤدي دمج الإدارتين ببساطة إلى معالجة الخلافات الإيديولوجية والسياسية العميقة.

مبادرة ستيفاني خوري لدمج الحكومتين في ليبيا تقدم نهجاً يحمل إخفاقاً ذاتياً، ويعكس فينفس الوقت تعمداً في ترسيخ الانقسام السياسي عبر عناوين تدعي تعزيز الوحدة والاستقرار، ويخاطر بترسيخ الانقسامات القائمة، وتأخير الانتخابات الحاسمة، وإدامة ترتيبات تقاسم السلطة التي أبقت ليبيا في حالة من الغموض، فحل الأزمة الليبية لا يكمن في الصفقات السياسية بل في الالتزام الحقيقي بالإصلاح الديمقراطي وإعادة بناء المؤسسات، وبدون معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار في ليبيا، فمن غير المرجح أن تنجح مبادرة خوري، بل قد تؤدي في الواقع إلى تفاقم الوضع.

بقلم نضال الخضري

ليبيا.. توقيع أولى العقود الضخمة لإعادة إعمار درنة

اقرأ المزيد