22 نوفمبر 2024

وضعت حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية ليبيا ضمن مساحة جديدة للصراعات الإقليمية والدولية، حيث منحت تركيا دوراً محورياً في الصراع المستمر، ومختلف كلياً عن التفاهمات السابقة الموقعة في عام 2019.

يظهر المشهد الليبي اليوم في إطار مختلف مع الصلاحيات الواسعة التي منحتها حكومة الدبيبة لأنقرة كي تتعامل مع كافة الموارد الليبية، فبعد التفاهمات التي تم توقيعها عام 2019 والتي خلفت صراعات سياسية إقليمية، يأتي الاتفاق الجديد في محاولة لتغير الميزان الاستراتيجي الداخلي، وذلك مع عجز حكومة الدبيبة من تحقيق معادلة استقرار داخلي في مواجهة شرق ليبيا الذي يشهد حالة أمنية هادئة، حيث تسعى حكومة طرابلس لخلق ديناميكيات جديدة داخل الأزمة الليبية، فأعطت تركيا مساحة واسعة لمناورات استراتيجية، فالغرب الليبي يحاول عبر الاتفاق مع أنقرة كسر الواقع السياسي الليبي بأكمله، وإعطاء الجيش التركي دوراً مكشوفاً في حماية حكومة الدبيبة والحفاظ على وجودها.

خلفية التدخل التركي

يعود تورط تركيا في ليبيا إلى عام 2019، عندما تم توقيع مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، وسمح هذا الاتفاق لتركيا بتقديم الدعم العسكري لهذه الحكومة التي كانت  ضعيفة أمام القوات المسلحة الليبية بقيادة خليفة حفتر، وعملت تركيا على إرسال مستشارين عسكريين وزودت الفصائل في الغرب الليبي بالأسلحة، وتم استخدام الطائرات التركية بدون طيار في المعارك، إضافة لاستقدام مرتزقة ما لعب دوراً حاسماً في تغيير مسار الصراع لصالح حكومة الوفاق.

وتعززت العلاقة بين تركيا وليبيا بتوقيع مذكرة تفاهم أخرى في عام 2024، في ظل حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وبشكل يمنح أنقرة امتيازات قانونية وعملياتية واسعة في ليبيا، ويرسخ نفوذها في المنطقة، وتعكس تلك الاتفاقية حالة خاصة للوضع السياسي في ليبيا يحمل معه عاملين أساسيين:

  • العامل الأول عسكري، فأمام عدم قدرة حكومة الدبيبة على خلق قوة عسكرية وأمنية قادرة على ضمان الاستقرار في الغرب الليبي؛ فإنها لجأت لإعطاء تركية امتيازات عسكرية رادعة في مواجهة المجموعات المسلحة المنتشرة في طرابلس ومحيطها.

بالتأكيد فإن حكومة الدبيبة لديها مخاوفها أمنية من القوات المسلحة الليبية، لكن اهتمامها الأكبر ينصب على طبيعة التوازن العسكري القائم داخل طرابلس، فهي رغم تحالفاتها مع الفصائل المسلحة أرادت زيادة قدرتها على التحرك من خلال الدعم العسكري التركي المباشر، فهناك خوف من الهزيمة في أي معركة مع الشرق الليبي، وفي نفس الوقت هناك خشية من الانقلاب على حكومة الدبيبة من قبل الميليشيات التي تسيطر على مناطق واسعة من الغرب الليبي، فحكومة طرابلس تعاني من ضعف في ببنيتها السياسية و العسكرية، وتعتمد بشكل واضح على الحلفاء الأجانب مثل تركيا للبقاء.

  • العامل الثاني سياسي، فرغم الدعم الغربي لحكومة الدبيبة لكن المسار المتعثر للأزمة الليبية دفع الدبيبة باتجاه تعديل الميزان الاستراتيجي وإضافة عامل حاسم من خلال التواجد التركي المباشر على الأرض الليبية.

إن قرار الدبيبة بتعميق العلاقات مع تركيا يعكس إدراكه لهذا الموقف الحرج، فمذكرة التفاهم الموقعة في مارس 2024؛ والتي كشفت عن بنودها وسائل إعلام تركية، تتعلق بوضعية القوات التركية في ليبيا، وتقدم بها الرئيس رجب طيب إردوغان، إلى البرلمان في 12 أغسطس الحاي؛ لا تعمق الوجود العسكري التركي فحسب، بل تمنح القوات التركية أيضا استقلالية كبيرة في عملياتها داخل ليبيا، وهذا يشمل الحق في استخدام الأراضي الليبية والمرافق والموارد، ما يجعل أجزاء من غرب ليبيا فعلياً تحت السيطرة التركية.

مدى السيطرة التركية

سلمت مذكرة التفاهم بين حكومة الوحدة الوطنية وتركيا السيطرة الكبيرة على غرب ليبيا إلى أنقرة، وتشمل البنود الرئيسية للاتفاقية:

  • الحضور العسكري والاستقلالية: تم منح القوات التركية في ليبيا حقوقاً واسعة لاستخدام المرافق البرية والجوية والبحرية، والقيام بعمليات عسكرية دون الحاجة إلى موافقة مسبقة من السلطات الليبية، ويتيح هذا المستوى من الاستقلالية لتركيا الحفاظ على حضور عسكري قوي في غرب ليبيا، بما في ذلك إقامة قواعد عسكرية.
  • الحصانة القانونية: يتمتع الأفراد العسكريون الأتراك بحصانة من القانون الليبي عن الأفعال التي يقومون بها في إطار عملهم العسكري، وتضمن هذه الحماية القانونية أن تعمل القوات التركية دون مساءلة، ما يعزز من ترسيخ وجودهم ونفوذهم في المنطقة.
  • الفوائد الاقتصادية: توفر مذكرة التفاهم لتركيا مزايا اقتصادية كبيرة، بما في ذلك الإعفاءات الضريبية على السلع والخدمات المستوردة لأغراض عسكرية، بالإضافة إلى ذلك، تحصل الشركات التركية على معاملة تفضيلية في العقود الليبية، وخاصة في إعادة بناء البنية التحتية المتضررة من الحرب الأهلية.
  • البنية التحتية الاستراتيجية: تم منح تركيا الحق في تطوير والسيطرة على البنية التحتية الاستراتيجية في ليبيا، مثل القواعد العسكرية وشبكات الاتصال، وهذا يشمل إقامة مركز قيادة تركي يتحكم في العمليات العسكرية في المنطقة.

تداعيات السيطرة التركية على غرب ليبيا

إن تزايد النفوذ التركي في غرب ليبيا سيحمل تداعيات بعيدة المدى على المنطقة، فتعزيز الدور التركي كصانع رئيسي للقرارات في الصراع الليبي، يُهمش اللاعبين الإقليميين الآخرين مثل مصر والإمارات العربية المتحدة الذين يدعمون القوات المسلحة الليبية، كما أن سيطرة تركيا على غرب ليبيا تتيح لها زيادة قوتها عبر البحر الأبيض المتوسط، ما يعزز طموحاتها الجيوسياسية في المنطقة.

من جانب آخر زاد الوجود التركي من التوترات داخل ليبيا، كما أن له تداعيات اقتصادية كبيرة؛ من خلال تأمين شروط مفضلة للشركات التركية في جهود إعادة إعمار ليبيا، فأنقرة ضمنت حصولها على فوائد اقتصادية كبيرة، وهذا النفوذ الاقتصادي يعزز من قوة تركيا في تعاملاتها مع حكومة طرابلس والفصائل المنتشرة في الغرب الليبي.

والواضح أن رد الفعل الدولي مازال بطيئاً نتيجة الاتفاق الليبي – التركي الأخير، ففي حين تعترف الأمم المتحدة بحكومة الوحدة الوطنية كحكومة شرعية لليبيا، فهي دعت أيضا إلى تقليص الوجود العسكري الأجنبي في البلاد، وتصرفات تركيا تعقد الجهود الدبلوماسية لتحقيق حل سلمي للنزاع، لكن الأمم المتحدة لم تعلق بعد على ما سيخلفه الاتفاق، أما القوى الإقليمية مثل مصر واليونان فأعربت عن اعتراضات قوية على تورط تركيا في ليبيا، واعتبرته عاملاً مزعزعاً للاستقرار في المنطقة، فهي قلقة من احتمال سيطرة تركيا على الموارد الليبية من الطاقة، والتي تغير ميزان القوى في شرق البحر الأبيض المتوسط.

غيّر التدخل التركي في ليبيا بشكل جذري ديناميكيات القوة في البلاد، حيث بات غرب ليبيا يخضع بشكل متزايد للسيطرة التركية، واعتماد حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الصلاحية على أنقرة للحصول على الدعم العسكري والاقتصادي سمح لها بتأسيس موقع مهيمن في المنطقة، ومع استمرار تركيا في ترسيخ وجودها في غرب ليبيا، تتزايد صعوبة فرص تحقيق دولة ليبية موحدة ومستقلة، ويجعل طريق السلام والاستقرار خاضعاً أكثر للتوازن الإقليمي بدلاً من أن يلبي مصلحة الليبيين.

بقلم نضال الخضري

مجلس الأمن يراجع تفويض البعثة الأممية في ليبيا وسط تصاعد التوترات السياسية

اقرأ المزيد