05 ديسمبر 2025

من جديد، تعلن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن “خارطة طريق” عبر لجنة استشارية مؤلفة من عشرين شخصية ليبية، وتقريرها الذي وصفته المبعوثة الأممية هانا تيتيه بـ”نقطة انطلاق لحوار وطني شامل” ليس إلا شرعنة تدريجية لأمر واقع هش.

عمليا فخلف اللغة الهادئة والمصطلحات الإنشائية، يظهر مشهد أكثر تعقيدا، ومقاربة رمادية لقضايا مفصلية مثل الجنسية الثانية، الترشيح العسكري، والعدالة الانتقالية، فالبعثة قدمت التقرير كتوصيات ليبية “محضة”، لكنها لم تتردد في الدفع بها عبر قنواتها، وعرضها على القادة شرقاً وغرباً، بل والترويج لها كأرضية سياسية للتوافق.

إن ما يظهر على السطح كحياد دبلوماسي هو في الواقع انخراط ناعم، وربما مقصود، في هندسة نتائج سياسية مفصلة على مقاس أطراف بعينها، ولم يكن مفاجئا أن تقفز اللجنة إلى توصيات جوهرية، بعضها غير مخوّلة به أصلا، مثل التعدي على صلاحيات هيئة صياغة الدستور المنتخبة ودون تفويض شعبي أو قانوني.

الجنسية الثانية: التساهل باسم الواقعية

أحد أكثر المقترحات إثارة للجدل هو السماح لمزدوجي الجنسية بالترشح، مع شرط التنازل لاحقا، والعبارة تثير سؤالا جوهريا: متى يكون “لاحقاً”؟ وما الضمانات؟ في بلد استُخدمت فيه الجنسية كسلاح سياسي، حيث يحمل عدد من كبار المترشحين، بمن فيهم سيف الإسلام القذافي، جنسيات أجنبية، ولا يمكن اعتبار هذه المسألة تفصيلا إجرائيا من دون آليات تنفيذ صارمة، لأنها ستحول التنازل “اللاحق” إلى مناورة قانونية لتأمين الوصول إلى السلطة، ثم تطويع النصوص بعد ذلك.

أما التوصية الأكثر استفزازاً فهي تلك المتعلقة بحق العسكريين في الترشح للانتخابات الرئاسية، فاللجنة تقترح “إجراءات تنظيمية” للحفاظ على حياد المؤسسة العسكرية، لكنها تتجاهل الواقع: في ليبيا حيث لا وجود فعلي لمؤسسة عسكرية قومية موحدة، وتبدو المخاوف من ترشح العسكريين تتجاوز مبدأ الفصل بين السلطات، بل تكريس للثنائية المقلقة: السلاح والسلطة في قبضة واحدة.

وتبدو الخطورة في هذا الموضوع في الغرب الليبي، حيث يمكن اعتبار زعماء الميلشيات جزء من الجهاز العسكري، وفي حال ترشحهم فإن الانتخابات ستصبح صراعاً بين من هو أقوى والأقدر على السيطرة، وفرض صورته على الناخبين.

سيف” القضاء الليبي الصدئ

المسألة التي يمكنها أيضاً فتح مساحة جدل سياسي وقانوني هو شرط “خلو السجل الجنائي من جرائم الشرف والأمانة” شرطًا للترشح، وهنا نشهد تغييبا فاضحا لسياق ليبي مأزوم قانونياً، فماذا عن الجرائم ضد الإنسانية؟ هل تُستثنى من القائمة؟ سيف الإسلام القذافي، الذي صدرت بحقه أحكام دولية لاعتبارات خارجية، لم يُذكر صراحة، لكن الحذف هنا أفصح من القول،فإن كان الشرط لا يشمل من ارتكب جرائم خلال “الثورة” وما بعدها، فإن الرسالة واضحة: العدالة الانتقالية طُويت صفحتها، أو بالأحرى، لم تُفتح أصلا، مع ملاحظة أن هذه الصفحة تُفتح و تُطوى لأغراض تتماشى مع إرادة ومصالح الدول الكبرى ليس أكثر، ويمكن استخدامها لفرض طرف أو تغيبه.

في المقابل فإن اقتراح فصل المسارين الرئاسي والتشريعي يحمل وجهاً من الحكمة الإدارية، لكنه لا يعالج أصل الخلل بافتقار ليبيا إلى دستور متوافق عليه، فالربط بين الاستحقاقين في التعديل الدستوري الثالث عشر كان خللاً بالفعل، لكن الحل ليس في مزيد من التجزئة، بل في تأسيس قاعدة دستورية شرعية، لكن اللجنة في النقطة الثانية، كنتُ لأتخذ نبرة أشد تجاه مختلف اللجان، سواء كانت «لجنة-20» أو «لجنة-75».

فملتقى الحوار السياسي الليبي تحت رعاية الأمم المتحدة (لكن في الواقع تحت النفوذ الأميركي) أجّل فعليّاً الانتخابات العامة خمس سنوات، ولا أحد يضمن ألّا يتكرر هذا الأمر مرة أخرى.

ولا تتعلّق المشكلة حتى بكون الدبيبة فاز آنذاك بفضل التركيبة المبهمة للمشاركين—التي اختارتها بعثة الأمم المتحدة بشكل منفرد—وبفضل الدسائس والفساد (حيث عُرفت حالات شراء أصوات المندوبين). إنما الخطأ الجوهري هو حسم مصير البلاد ضمن دائرة ضيقة.

وحتى التزكيات المطلوبة (10 آلاف موزعة على 7 دوائر) تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها تُستخدم عملياً لتصفية بعض المرشحين وتمرير آخرين، خصوصاً في ظل ضعف البنية الحزبية وسيطرة المال السياسي.

العودة إلى لجنة 75… كابوس أم ضرورة؟

ردت الفعل الليبية على التقرير شكل ارتكاسه عبر دعوة البعض إلى ما يعرف بـ”لحنة 75″ و “لجنة 20″، وهنا لا بد من تسمية الأمور بمسمياتها، فاللجنتين كانتا أداتين لتدوير الأزمة الليبية لا لحلها، فملتقى الحوار السياسي الليبي، الذي جرى تسويقه دوليا كعملية أممية، كان عمليا رهينة للنفوذ الأميركي وتحالفات المصالح الإقليمية، حيث أطاح هذا الملتقى باستحقاق انتخابي كان من المفترض أن يضع ليبيا على مسار السيادة والمؤسسات، لكنه بدلا من ذلك أسس لفراغ شرعي مستمر منذ خمس سنوات.

من الواضح أن الطريق إلى رئاسة الحكومة لم تمر يوما عبر صناديق الاقتراع، بل عبر غرف مغلقة مشبوهة، اجتمعت فيها تركيبة مبهمة من المشاركين اختارتهم البعثة الأممية دون معايير شفافة، وجرى توثيق عمليات شراء أصوات علنية في كواليس ذلك الحوار.

الخلل لم يكن فقط في فوز عبد الحميد الدبيبة بتلك الطريقة، بل في القبول الممنهج بأن تُدار البلاد من قبل حلقة ضيقة، لا تمثل الشعب ولا تعبّر عن تطلعاته. الأخطر من ذلك أن بعض الأصوات اليوم تنادي بالعودة إلى “ملتقى الحوار”، وكأن ما جرى لم يكن كافيا لإثبات فشله،فهذه الدعوات لا تعبّر عن رغبة في استعادة المسار الديمقراطي، بل عن يأس عميق من بعثة أممية باتت عاجزة عن فرض قواعد حيادية أو إنجاز انتقال سياسي فعلي.

وأما توصيات لجنة 20 الجديدة، بشأن تشكيل حكومة موحدة خلال 24 شهراً، فلا تعدو كونها تكراراً مشيناً لمسرحية قديمة تدور في فصولها ذات الوجوه، وذات الوهم بتسويات لا تفضي إلا للمراوحة.

والسؤال الآن ليس ماذا جاء في تقرير اللجنة، بل ما الذي تكشفه ردة الفعل عليه؟ رفض هيئة صياغة الدستور لمخرجات اللجنة، واتهام مجلس النواب للبعثة بالتجاوز، وحتى انتقادات بعض أعضاء لجنة 6+6، كلها علامات واضحة على فقدان الثقة،فالبعثة لم تعد ميسر محايد، بل طرفا يراوغ بين مصالح داخلية وخارجية.

حتى في أفضل السيناريوهات، تبدو التوصيات أقرب إلى تجميل واقع مأزوم لا إلى تغييره،فلا شفافية حقيقية في آلية استطلاع آراء الليبيين، ولا ضمانات لاحترام نتائجها، ولا خطوات ملموسة لحماية العملية الانتخابية من تأثيرات السلاح والمال والانقسامات الإقليمية.

ما يحتاجه الليبيون ليس حزمة “خيارات” جديدة، بل الإرادة الدولية الصادقة لدعم حل جذري ينطلق من قاعدة شرعية، دستور دائم، وإطار قانوني غير خاضع للتأويل، واللجنة الاستشارية، رغم جهدها، لم تتجاوز كونها محاولة لشراء الوقت، ودفن الاستحقاق الانتخابي في تفاصيل إجرائية، تحت مظلة أممية فقدت وزنها الأخلاقي والسياسي.

بقلم: مازن بلال

23 دولة تحذر من تصاعد خطر الصراع النووي

اقرأ المزيد