24 نوفمبر 2024

تثير الانتخابات الرئاسية التونسية والفوز الساحق للرئيس الحالي قيس سعيد صورة لعودة البلاد إلى تأثير الدولة العميقة التي تفضل وجود سلطة واحدة رغم كافة أشكال التعدد السياسي الذي يقره الدستور في تونس.

 

كان فوز سعيد بنسبة 89% من الأصوات مؤشرا على طبيعة المشهد السياسي العام، فبينما حصل أقرب منافس له، المرشح عياشي زامل، زعيم حزب “أزيمون” على 6.9% فقط من الأصوات، كانت نسبة الإقبال على الانتخابات متدنية وبلغت 27.7%، وهي الأدنى منذ ثورة 2011، وتعكس أيضا حالة سياسية مقلقة نتيجة اللامبالاة من قبل الشارع التونسي.

ولم يكن فوز سعيد مفاجئا على الإطلاق، وطبيعة التوزع السياسي الذي سبق الانتخابات يوضح أن هذه النتيجة طبيعية، فالمعارضة ظهرت مجزأة ولم تستطع خلق تحالفات قوية في مواجهة آليات ترسيخ السلطة التي اعتمدها سعيد منذ عام 2021، كما حافظت قدرته في الحفاظ على قاعدة من المؤيدين المخلصين، إلى جانب تراجع الإيمان بالأحزاب السياسية التي نشأت بعد الربيع العربي، دورا حاسما في هيمنته.

سعيد وطريق نحو السلطة

صعد قيس سعيد، أستاذ القانون السابق، إلى الرئاسة لأول مرة عام 2019 كمرشح من خارج الدائرة السياسية التي بقيت تتأرجح فيها السياسات التونسية منذ عام 2011، وحقق فوزا مفاجئا في جولة الإعادة ضد رجل السياسة والإعلام القوي نبيل القروي، وتميزت رئاسة سعيد بنهج شعبوي، حيث وضع نفسه كزعيم نظيف اليد من شأنه أن يستأصل الفساد ويستعيد كرامة الدولة، لكن فترته الرئاسية الأولى شهدت مرحلة تحول واضح بعد قراره في يوليو 2021 بحل البرلمان وتولي سيطرة شبه الكاملة على الحكومة.

واعتبر سعيد إجراءه بداية لتقوية الواقع السياسي ولكنه تعامل مع ظروف صعبة نتيجة جائحة كوفيد-19، حيث زادت الضغوط تجاه الاقتصاد المتعثر في تونس، واندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، حيث طالب المواطنون بإزالة الطبقة الحاكمة، التي ألقوا عليها اللوم في التدهور الاقتصادي والركود السياسي،واستغل سعيد هذه الاضطرابات بتعليق الدستور، وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، وتركيز السلطة في يديه.

وفي عام 2022، قدم سعيد دستورا جديدا وحقق موافقة عبر استفتاء عام بنسبة 94.6%من المصوتين عليه، ولكن الإقبال المنخفض على المشاركين في الاستفتاء الذي لم يتجاوز 30%، أثار الكثير من التكهنات حول المستقبل السياسي لتونس، فالرئيس سعيد استحوذ على سلطات واسعة نتيجة الدستور الجديد، وتقلصت صلاحيات السلطة التشريعية بشكل واضح، ولكن هذه النتائج السياسية التي استطاع سعيد الوصول إليها لم تأتي من فراغ، فالواقع السياسي بعد 2011 خلف حالة من التنافس السياسي وجعل الحزب هشا وغير قادر على خلق تحولات توازي الحدث الذي رافق الثورة التونسية.

معارضة مجزأة ودعوات للمقاطعة

تميزت انتخابات 2024 بمعارضة مجزأة فشلت في تشكيل تحدٍ جاد لسعيد، وأعرب أكثر من 100 مرشح محتمل عن اهتمامهم بالترشح للرئاسة، لكن 17 فقط منهم تمت الموافقة عليهم في البداية من قبل اللجنة الانتخابية، ومن بين هؤلاء تم استبعاد 14 مرشح لاحقا، بما في ذلك بعض الشخصيات السياسية الرئيسية، وهذه التطورات أظهرت حسب بعض التقارير العملية الانتخابية كظاهرة يتحكم بها الاستبداد أكثر من كونها تعبيرا ديمقراطيا.

وكان من أبرز التطورات التي رافقت مرحلة ما قبل الانتخابات سجن عياشي زمال، وهو أبرز منافسي سعيد، بتهم تتعلق بالاحتيال الانتخابي وتمويل الحملات الانتخابية بشكل غير قانوني، وعلى الرغم من سجنه، لم يتم إلغاء ترشيحه ما أضاف تحولا دراماتيكيا إلى السباق الرئاسي، وكان لسجنه وافتقاره إلى الآلية السياسية دورا في جعل فرصه لخلق معارضة جادة تجاه الرئيس سعيد ضئيلة.

وأن أحزاب المعارضة بدلا من قيامها بفعل سياسي حقيقي عبر دعم عياشي زمال، قامت بمقاطعة الانتخابات، وابتعدت الائتلافات السياسية البارزة، بما في ذلك جبهة الإنقاذ الوطني، عن صناديق الاقتراع، وزعمت أن العملية الانتخابية غير ديمقراطية وتفتقر إلى الشروط اللازمة للمنافسة العادلة، وترك غياب مرشحي المعارضة الأقوياء الرئيس سعيد كخيار فعلي للعديد من الناخبين، وضمن طريقه إلى ولاية ثانية.

لامبالاة الناخبين وخيبة الأمل

أحد أكثر جوانب انتخابات 2024 إثارة للانتباه هو انخفاض نسبة الإقبال على التصويت تاريخيا، وأشار معدل المشاركة إلى هشاشة الشارع السياسي ولامبالاة التونسيين بالحدث، حيث أصيبوا بخيبة أمل متزايدة تجاه الحكومة والمعارضة، وذلك بعد آمال عريضة واكبت الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، فرهان التونسيين كان قائما على مسألتي الإصلاحات الديمقراطية والتعافي الاقتصادي، لكن المشاكل الاقتصادية تعمقت منذ الثورة وحتى الانتخابات الأخيرة.

وانشغل الناخب التونسي بحالته المعيشية وذلك مع ركود في نمو الناتج المحلي الإجمالي عند 0.4% عام 2023، ووصول معدل البطالة إلى 17%، وارتفع هذا المعدل بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 24 عاما إلى ما يزيد عن 40%, وأدى هذا الواقع الاقتصادي القاسي، إلى عدم الاستقرار السياسي، وإلى تآكل ثقة الجمهور في المؤسسات الديمقراطية التي أنشئت بعد الثورة.

وعمليا هنا فشلت حكومات ما بعد الثورة في تونس، بما في ذلك حزب النهضة الإسلامي، في الوفاء بوعودها بالإصلاح الاقتصادي والنمو، ولم تستطع حركة النهضة التي برزت بعد الثورة في إدارة الصعوبات والتحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد، وتورطت في معارك أيديولوجية أدت إلى تنفير الفصائل العلمانية، ومهد هذا الطريق لصعود شخصيات شعبوية مثل سعيد، الذي وضع نفسه كبدائل للنخبة السياسية القائمة.

الدور المعقد للغرب

كانت استجابة المجتمع الدولي للمسار السياسي في عهد سعيد غير واضحة، حيث أعربت الدول الغربية عن قلقها من ميول سعيد الاستبدادية المتزايدة، لكنها في نفس الوقت استمرت في تقديم الدعم المالي له، ويرجع هذا الأمر إلى الأهمية الاستراتيجية لتونس، وخاصة في السيطرة على تدفقات الهجرة إلى أوروبا، وطالما حافظ سعيد على السيطرة على الهجرة، فإن الحكومات الغربية على استعداد للتسامح مع كافة إجراءاته التي يصفها بعض النشطاء بالاستبدادبة للسلطة، وتتجاهل التزامها المعلن بالديمقراطية.

ولم تثمر الاتهامات التي تم توجيهها لسعيد من قبل المنظمات المدنية الدولية من تغيير القواعد السياسية القائمة، فتوسيع سلطته واتهامات منظمات حقوق الإنسان لحكمه بقمع المعارضة بقيت دون تأثير سياسي جاد، وحسب هيومن رايتس ووتش فإن أكثر من 170 شخصا تم اعتقالهم لأسباب سياسية منذ وصول سعيد إلى السلطة، بما في ذلك شخصيات بارزة مثل زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي وعبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحر.

وعلى الرغم  من هذه الانتقادات، احتفظ سعيد بقاعدة دعم بين شرائح من السكان الذين ينظرون إليه باعتباره تصحيحا ضروريا لخلل النظام السياسي بعد الثورة، ولاقت خطاباته المناهضة للغرب ومناشداته للقومية العربية صدى لدى الناخبين المحبطين من سنوات من الركود الاقتصادي والتدخل الأجنبي.

الطريق أمام تونس

ضمن سعيد بقاءه على رأس السلطة السياسة التونسية للسنوات الخمس القادمة، ومن المرجح أن تكون ولايته الثانية محفوفة بالتحديات، فالأزمة الاقتصادية في تونس لا تظهر أي مؤشرات على حالة تعاف إذا لم تتم إصلاحات كبيرة، وستكافح حكومة سعيد لتلبية مطالب مواطنيها، ومن المرجح استمرار التوترات السياسية مع تحدي جماعات المعارضة، العلمانية والإسلامية، لسلطة سعيد، ولكن السؤال يبقى قائما: هل سيعزز سعيد قبضته على السلطة أم سيقدم تنازلات لتعزيز بيئة سياسية أكثر شمولا؟

وتواجه تونس بعد الانتخابات تحديات قاسية، ففي حين يرى أنصار سعيد فيه الأمل الأخير لاستعادة النظام والاستقرار، يحذر منتقدوه من أن البلاد تنزلق مرة أخرى إلى الاستبداد، وستكون السنوات القليلة المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كانت تونس قادرة على تحقيق ما يريده سعيد من تقوية مؤسسات الدولة العميقة، وجعل الديمقراطية أداة للحفاظ على قوة الدولة، أو أن الهشاشة السياسية ستبقى جزء من التونس لمرحلة ما بعد الثورة التي أرادت خلق حياة جديدة للتونسيين.

بقلم مازن بلال

تونس تُطلق مشروعات جديدة للطاقة الشمسية بقدرة 100 ميغاواط

اقرأ المزيد