30 مارس 2025

تقترب ليبيا من المرحلة الثانية من انتخابات المجالس البلدية لعام 2025، ويتضح أن هذه العملية المرتبطة بمصالح المواطنين ويُفترض أن تشكّل ركيزة للحكم المحلي، تعاني من أزمة شرعية وعزوف شعبي في الغرب الليبي.

كان من المفترض أن تكون الانتخابات خطوة نحو اللامركزية، لكنها تحولت إلى إجراء بيروقراطي بالنسبة لحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، حيث تركت كل تفاصيلها للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات بمفردها، في وقت ينظر فيه النخب السياسية إلى تلك الانتخابات على أنها مناورات خفية تقوم بها حكومة الدبيبة، فبالرغم من التحضيرات الجارية في 62 بلدية موزعة على الغرب والشرق والجنوب، يبدو أن الحماس الشعبي غائب، فحتى 18 مارس، لم يتجاوز عدد المسجلين 413,987 ناخبا، وهو رقم ضعيف للغاية بالنظر إلى الحجم السكاني في بلديات محورية مثل طرابلس وبنغازي، واضطرت المفوضية إلى تمديد مهلة التسجيل حتى 6 أبريل، في محاولة أخيرة لرفع الأعداد، لكن التفاعل لا يزال محدودا.

من بين أبرز الداعين للمشاركة في الانتخابات قناة الجماهيرية العظمى الموالية لسيف الإسلام القذافي، حيث تروّج لفكرة أن الانتخابات تمثّل فرصة “لاستعادة الشعب السيطرة”، وتحذر من ترك الساحة لـ”الميليشيات والانتهازيين”، فالرسالة واضحة حيث يحاول سيف القذافي إعادة إدخال حركته إلى المشهد السياسي ليس بالضرورة للفوز، ولكن لإثبات الوجود والقدرة على الحشد، وهذا يثير قلقا من بعض الأطراف السياسية.

انتخابات بلا موعد ولا ميزانية

ربما كانت العلامة الأوضح على الإهمال الحكومي لملف الانتخابات أن موعد الاقتراع لم يُحدد بعد، وهذا الأمر ينقل صورة عن التخبط عدم الاستقرار الحكومي، ويشكل سمة للأداء في حكومة طرابلس، فالمفوضية الوطنية العليا للانتخابات تعاني من نقص حاد في الموارد، وعبر المسؤولون فيها عن استيائهم من تقاعس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، عن توفير التمويل اللازم، وبدون ميزانية كافية يصعب تنظيم المراكز الانتخابية وتوظيف العاملين وتأمين المعدات.

في المقابل، تعاني العملية من انعدام الثقة في الشارع الليبي، فمع عدم القدرة على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، لم يعد الليبيون يرون في صناديق الاقتراع طريقا لتحسين أوضاعهم، والأخطر أن قلة منهم تثق بأن النتائج ستكون محترمة أو ذات تأثير فعلي، فالفساد الساسي يتغلغل بكل مفاصل الحكومة في طرابلس وفي الهيئات التي تعمل تحت إشرافها.

مرشحون بخلفيات جنائية

تظهر حالة سياسية إضافية خطرة بمراجعة قائمة المرشحين، حيث تضم هذه القوائم في معظم الغرب الليبي أعداداً ليست بالقليلة من ذوي السوابق، وكشف مكتب النائب العام الليبي أن 228 من أصل 4214 مرشحا في المرحلة الثانية مطلوبون في قضايا جنائية، تتراوح بين القتل (5 حالات)، والاغتصاب (3)، والفساد المالي (8 قضايا)، واستغلال السلطة (16)، والتزوير والسرقة وتعاطي المخدرات وصولا إلى الخطف.

هذه الصورة للقوائم تسعى عمدا لضرب مصداقية العملية الانتخابية، حيث تثير تساؤلات حول معايير قبول الترشيحات، ويعكس تغلغل عناصر مشبوهة في الفضاء السياسي، في ظل غياب مؤسسات رقابية فاعلة، وتحاول المفوضية رغم قتامة هذه الصورة ترويج مظهر إيجابي عن التزامها بالشفافية، ففي اجتماعاتها ناقشت المفوضية ملاحظات ديوان المحاسبة على أدائها المالي، وأكد رئيسها عماد السايح على أهمية الانضباط المالي والحوكمة الرشيدة، لكن هذه التصريحات لا تُقنع الشارع، خاصة حين يرى أن بعض المرشحين متورطون في جرائم قتل وفساد ومخدرات.

عمليا فإن الانتخابات البلدية يمكن اعتبارها إحدى التجارب الديمقراطية القليلة التي نجت منذ سقوط نظام القذافي بـ 2011، ووسيلة لتعزيز الحكم المحلي في ظل تعثر المسار السياسي الوطني، وقد نجحت اللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية، بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، في تنظيم انتخابات ببعض المدن خلال 2023، بما في ذلك درنة التي شهدت اقتراعا لأول مرة منذ 10 سنوات، لكن هذا التقدم تعثر بشكل سريع، فالتمويل غير مستقر، والمليشيات تسيطر على مناطق واسعة، والصراعات القبلية تعيق الانتخابات في الجنوب، كما أن المشروع الطموح لإجراء اقتراع في 40 بلدية بحلول نهاية 2023 لم ينجح، لأسباب لوجستية وأمنية وسياسية.

قلق من “ظل القذافي”

أكثر ما يثير القلق خلف الكواليس هو إمكانية عودة تيار القذافي إلى واجهة المشهد السياسي عبر هذه الانتخابات، فبالرغم من أن سيف الإسلام القذافي مطلوب دوليا، إلا أن شبكته الإعلامية لا تزال تملك قدرة على التأثير، خاصة وسط فئات تشعر بالخيانة من المرحلة الانتقالية المستمرة منذ أكثر من عقد، ودعوات قناة الجماهيرية للمشاركة لا تعني فقط الرغبة في التغيير، بل تمثل تحديا لبعض النخب الحاكمة التي لا تريد رؤية قوائم موالية للقذافي تتصدر المجالس البلدية مجدداً، كما حدث في تجارب سابقة وفجّرت صدمة لدى كثير من الفاعلين، حيث  أعلن سيف الإسلام القذافي عن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا، في الانتخابات البلدية الليبية التي جرت في نوفمبر 2024.

في المشهد السياسي الليبي تبدو الانتخابات البلدية على وشك أن تتحول إلى عملية “شكلية” ولكن بإطار قانوني، حيث لا تحمل أي تأثير، فعدد المسجلين منخفض وذلك مع غياب التمويل وظهور مرشحين مشبوهين ما جعل ثقة الشعب معدومة والداعون الحقيقيون للمشاركة فيها هم تيارات تتطلع للعودة إلى الماضي.

والانتخابات تقدم تحذيرا لما يمكن أن يحصل عندما تحدث دون مؤسسات شرعية، ودون رقابة، وفي ظل أداء هش لحكومة طرابلس، وإذا لم يجر تغيير جوهري فإن هذه الانتخابات، التي يُفترض أن تكرّس الحكم المحلي، تصبح مجرد وسيلة لإعادة إنتاج الفساد والسلطوية وتساهم في تردي الاوضاع في ليبيا.

بقلم مازن بلال

اقرأ المزيد