05 ديسمبر 2025

مع اقتراب يوم 20 أكتوبر 2025، تدخل ليبيا مرحلة جديدة في مسارها الانتخابي المتعثر، مع إعلان المفوضية الوطنية العليا للانتخابات انطلاق المرحلة الثالثة من الانتخابات البلدية، وبعد عام من التقلبات السياسية والقانونية التي أعاقت استكمال المرحلتين السابقتين.

الخطوة التي يُفترض أن تمثل استمرارا لمسار اللامركزية والديمقراطية المحلية، تأتي وسط حالة من الغموض المؤسسي والانقسام السياسي المتجذر، ما يجعلها تبدو أقرب إلى اختبار لقدرة الدولة الليبية على الاستمرار أكثر منها إلى تحول ديمقراطي فعلي.

هندسة انتخابية على عتبة إعادة الهيكلة

جاء الإعلان عن الموجة الثالثة في وقت حرج، إذ تعيش المفوضية العليا للانتخابات أزمة داخلية صامتة، مع تصاعد الحديث عن احتمال تغيير هيكلها الإداري وقيادتها، ويتزامن ذلك مع اقتراب انتهاء المفاوضات بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول إعادة توزيع المناصب السيادية، وهي الملفات التي لا يملك المجلس الرئاسي أي صلاحية مباشرة بشأنها.

ووفق تصريحات عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي، فإن هناك اتفاقا مبدئيا بين المجلسين على إعادة توحيد وتغيير شاغلي تلك المناصب، بدءا من المفوضية العليا للانتخابات نفسها، ويفسّر هذا لاستعجال الذي أحاط بإعلان رئيس المفوضية، عماد السايح، للجدول الزمني الجديد، في محاولة ربما لتثبيت موقع المفوضية قبل أي تغييرات مرتقبة في هرم السلطة الإدارية.

قراءة هذه الخطوة من زاوية سياسية تضعها كرهان من السايح على ترسيخ موقعه عبر الإنجاز، أي تثبيت شرعية الواقع مقابل احتمالات الإقصاء، فالتحرك السريع لإطلاق المرحلة الثالثة، وتأكيد السايح على إنجاز “80% من انتخابات المجالس البلدية”، يوحي بأن الرجل يحاول وضع المفوضية أمام أمر واقع يصعب التراجع عنه، حتى لو تبدلت القيادات لاحقا.

لكنّ هذه الحسابات لا تنفصل عن معركة أكبر تتعلق بإعادة توزيع السلطة داخل الدولة الليبية المفككة، فالمفوضية، بحكم موقعها، ليست جهازا فنيا فقط، بل طرف فاعل في معادلة الشرعية السياسية، وأي تغيير في قيادتها سيعني عمليا تغييرا في ميزان الثقة بين الشرق والغرب.

المشهد الانتخابي: بين الطموح الإداري والواقع المنقسم

تغطي المرحلة الثالثة من الانتخابات البلدية في ليبيا 12 بلدية جديدة، من بينها، طبرق، وبنغازي، وقمينس، وسلوق، وتوكرة، وسرت، وتاجوراء، والأبيار، والجديدة، إلى جانب استئناف الاقتراع في16  بلدية أخرى توقفت فيها العملية الانتخابية سابقًا ضمن المرحلة الثانية، مثل إجخرة، جالو، الكفرة، أوباري، براك الشاطئ، الغريفة، غات، المرج، الشرقية، القطرون، القرضة، أدري، الجفرة، خليج السدرة، أوجلة، وجردس العبيد.

ويُتوقع أن تشكّل هذه الجولة محطة مفصلية في مسار الانتخابات المحلية، خاصة أنها تشمل بلديات رئيسية في الشرق والجنوب، وتأتي بعد سلسلة من التأجيلات التي عكست عمق التحديات الإدارية والأمنية والسياسية المحيطة بملف الحكم المحلي في ليبيا.

هذا التقسيم المرحلي، الذي اعتمدته المفوضية منذ 2024، لم يكن خيارا تنظيميا فقط، بل آلية اضطرارية للتعامل مع انعدام الأمن والانقسام الجغرافي والسياسي، فليبيا لا تزال منقسمة فعليا بين حكومتين؛ حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، وحكومة برئاسة أسامة حماد في بنغازي، مكلفة من قبل مجلس النواب.

وفي شرق البلاد، تُجرى الانتخابات في عدد من البلديات الواقعة تحت إشراف الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، في ظل حرص السلطات المحلية على ضمان انضباط العملية الانتخابية واحترام أحكام القضاء، وتتحفّظ حكومة الشرق على أداء المفوضية العليا للانتخابات، بسبب ما تعتبره تجاهلا لأحكام قضائية نهائية صدرت ضد قرارات صادرة عن حكومة طرابلس، ولا سيما تلك المتعلقة بإلغاء أو إعادة ترسيم بعض البلديات دون مسوغ قانوني أو توافق إداري.
ويرى مسؤولون في الشرق أن التزام المفوضية بهذه الأحكام شرط أساسي لاستعادة الثقة في العملية الانتخابية وتكريس مبدأ سيادة القانون، معتبرين أن أي تجاوز لذلك يمثل انحرافاً عن المسار المؤسسي الصحيح، وليس مجرد خلاف سياسي كما تحاول بعض الأطراف تصويره.

ملف تاورغاء: الدرس الذي لم يُستوعب

لا يمكن فصل موجة الانتخابات الحالية عن القرار القضائي الأخير الصادر عن محكمة استئناف طرابلس بإلغاء ضم مدينة تاورغاء إلى بلدية مصراتة، وهو حكم يعيد فتح أحد أكثر الملفات حساسية في المشهد الليبي المرتبط بمسألة الهوية البلدية والعدالة الإدارية.

هذا القرار، وإن بدا إجرائيا، يعكس الخلل العميق في البنية القانونية للامركزية الليبية، التي تأسست بعد 2011 على قاعدة سياسية أكثر منها إدارية، فدمج البلديات أو تفكيكها تمّ غالبا بقرارات تنفيذية غير متفق عليها مجتمعيا، ما جعل من الخارطة البلدية الليبية نتاجا لصراع النفوذ أكثر من كونه انعكاسًا للواقع الاجتماعي والجغرافي.

تذكّر قضية تاورغاء اليوم بملف الزنتان، حيث تتقاطع أوجه الخلل البنيوي في الإدارة المحلية الليبية، ويتكرّر مشهد تسييس المجالس البلدية وتحويلها من مؤسسات خدمية إلى أدوات نفوذ محلي، ففي تطور لافت، أصدر وزير الحكم المحلي المكلف في حكومة الوحدة الوطنية قرارا بإيقاف عميد بلدية الزنتان المنتخب، الطاهر مصباح أبو جناح، عن العمل وإحالته إلى التحقيق الإداري، على خلفية مخالفات منسوبة إليه، ما أعاد إلى الواجهة الجدل حول استقلالية المجالس المحلية وحدود تدخل السلطة التنفيذية في شؤونها.

ويأتي هذا القرار في وقت تواجه فيه حكومة الدبيبة انتقادات متصاعدة إثر إصدارها قرارا جديدًا بإنشاء ثلاث بلديات هي “الزاوية الشمال” و”الزاوية الوسط” و”بئر الغنم”، وهو إجراء لإعادة رسم الخريطة الإدارية بما يخدم مصالح سياسية محددة، إضافة لسلسلة قرارات أحادية اتُّهم فيها الدبيبة بمحاولة “زعزعة الاستقرار داخل الإدارات المحلية”.

وقرار ضم بلدية تاورغاء إلى مصراتة أثار رفضا شعبياً وبرلمانيا واسعا، واعتُبر “محاولة لطمس الهوية”، قبل أن يُنصف القضاء المتضررين بإلغاء القرار ووقف الجهات المخالفة عن ممارسة مهامها.

تراكم هذه الأزمات، من الزنتان إلى تاورغاء، يُظهر أن إشكالية الحكم المحلي في ليبيا لم تعد تقنية أو إدارية فحسب، بل أصبحت سياسية بامتياز، إذ تتآكل الثقة الشعبية في الانتخابات البلدية الجديدة وسط قناعة متزايدة بأنّ المجالس المنتخبة، ما لم تُعالج هذه الاختلالات البنيوية، ستبقى واجهات شكلية في نظام إداري مهترئ يفتقر إلى الحوكمة والشرعية الفعلية.

الأمم المتحدة والغرب: دعم سياسي بلا أدوات تنفيذ

في خلفية هذه العملية، يظل موقف البعثة الأممية والمجتمع الدولي متسقا في دعم “الاستحقاقات المحلية” كبديل عملي عن الانتخابات الوطنية المعطلة منذ ديسمبر 2021، ففي نهاية سبتمبر الماضي، رحبت البعثة بأداء 35 مجلسا بلديا جديدا اليمين القانونية، بحضور نائبة المبعوث الأممي أولريكا ريتشاردسون.

غير أن هذا الدعم يبقى رمزيا، فالأمم المتحدة، العاجزة عن فرض توافق على القاعدة الدستورية الوطنية، لا تملك آلية لحماية العملية الانتخابية محليا في مناطق النزاع، والمفوضية تعمل في فراغ سياسي وأمني، مدعومة ببيانات دبلوماسية أكثر من دعم ميداني فعلي.

اللافت أن السايح نفسه لم يُعلّق على أي من مبادرات الأمم المتحدة الأخيرة، فيما يبدو أنه إشارة إلى استقلالية محسوبة أو إلى توتر خفي بين المفوضية والبعثة،  فالمفوضية، وهي مؤسسة سيادية ذات طابع وطني، تحرص على عدم الظهور بشكل التابع لأي وصاية دولية، خصوصا في سياق يزايد فيه كل طرف على “الشرعية الوطنية”.

اللامركزية المعلقة: المجالس بلا صلاحيات

رغم الطابع التقني للانتخابات البلدية، فإن جوهر الأزمة لا يتعلق بصناديق الاقتراع بل بما بعدها، فالمجالس البلدية، حتى المنتخبة منها، تفتقر إلى الصلاحيات التنفيذية والمالية الفعلية، وتعمل في ظل ازدواج إداري بين الحكومتين، مع غياب واضح لـ”المستوى الثاني من الإدارة المحلية” أي المحافظات، الذي لم يناقشه البرلمان بعد رغم دعوات المفوضية المتكررة.

بهذا المعنى، فإن أي مجلس بلدي منتخب اليوم سيجد نفسه مجرد حلقة معطلة في نظام بلا رأس ولا قاعدة، فلا توجد منظومة مالية موحدة تضمن التمويل المحلي، ولا جهاز رقابي موحد يضبط عمل البلديات، ولا سلطة قضائية مستقلة تحسم النزاعات حول صلاحياتها، والانتخابات ربما تُجدد الشرعية الشكلية لكنها لا تُحدث تحولا مؤسسيا حقيقيا.

المفارقة الكبرى: انتخابات بلا سياسة

في بلدٍ أنهكته الاستقطابات الأيديولوجية والعسكرية، تبدو الانتخابات البلدية فرصة لتفعيل السياسة من  القاعدة، ومن مستوى الخدمات اليومية، لكن الواقع يُظهر العكس، فالبلديات تحولت إلى امتداد للنزاعات الوطنية، حيث تُستخدم في توزيع النفوذ والموازنات، بينما تتراجع وظيفتها الخدمية.

ديمقراطية مؤجلة تنتظر إطارها

الموجة الثالثة من الانتخابات البلدية في ليبيا ليست مجرد محطة إجرائية؛ فهي مرآة دقيقة للأزمة الليبية بكل أبعادها السياسية والقانونية والاجتماعية، فهي تكشف هشاشة البنى الإدارية، وانقسام السلطات، وتضارب المرجعيات القانونية، وتآكل الثقة بين المواطن والدولة.

حتى لو نجحت المفوضية في استكمال هذه الجولة دون تعطيل أو طعن قضائي، فإن النتائج لن تغيّر من حقيقة أن المجالس البلدية تعمل في بيئة بلا نظام حوكمة واضح، وأن غياب سلطة مركزية موحدة يجعل من أي إنجاز انتخابي جزيرة معزولة وسط فوضى مؤسساتية.

بقلم مازن بلال

السلطات الإيطالية مغنية مالية إلى بلجيكا لتنفيذ حكم قضائي

اقرأ المزيد