بدأت السجون في الغرب الليبي بتشكيل صورة قاتمة لا تؤثر فقط على الوضع الأمني، بل تجعل الحل السياسي مرهون بسلطة الدوائر الأمنية الموزعة بين الفصائل المسلحة والحكومة المنتهية الولاية في طرابلس.
ويشكل الوضع الأمني في الغرب الليبي مصدراً لإعادة النظر في الشكل السياسي الذي تراعاه حكومة الدبيبة، فبغض النظر عن الاشتباكات التي يوثقها الإعلام بين الفصائل المسلحة، هناك قضية أكثر خطورة نمت في الظل وذلك عبر انتشار الاعتقالات العشوائية وظروف السجون المحلية.
وهذه الممارسات التي تقوم بها ميليشيات تتمتع بسلطة واسعة، هي في نفس الوقت جزء من العنف الذي تمارسه الحكومة عبر هذه المجموعات، وتكشف عن واقع تنتشر فيه انتهاكات حقوق الإنسان، ويسعى لتطويع القوى السياسية والأصوات المعارضة.
الاعتقالات العشوائية والاحتجاز
وينتشر في الغرب الليبي عدد من السجون التابعة للميليشيات ورغم عدم التصريح بها أو حتى محاولة إخفائها عن الإعلام، لكنها باتت معروفة عبر روايات الليبيين أنفسهم ممن تعرض للاعتقال، فإضافة للسجون التي تتبع السلطة القضائية مثل سجن الجديدة والهضبة الذي تم توثيق حالات اعتقال واحتجاز طويل الأمد فيهما دون محاكمة.
وهناك سجون في وادي الشاطئ ومرزق وأوباري وسبها والقطرون، تتبع لمجموعات مسلحة محلية، وأوضاعها غير معلومة، إضافة لسجن السرية الأولىالذي يرأسه عقيد في الشرطة القضائية، ويؤوي 20 نزيلاً في ظروف سيئة.
ويعتبر الأشهر بين السجون هو معتيقة الذي يتبع لقوات الردع، ويتم فيه ممارسة سلطة خاصة لا ترتبط بأي قانون أو حقوق للمواطنين، حيث يتم اعتقال الأفراد وفق اعتبارات خاصة، فهو مخصص في الأغلب للمعارضين السياسيين أو الناشطين أو حتى أولئك الذين كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، ويقع داخل قاعدة معيتيقة الجوية شرقي العاصمة طرابلس، ويبعد نحو 8 كيلومترات شرقي مركز طرابلس، داخل قاعدة معيتيقة الجوية، ولا يخضع لإشراف النيابة العامة أو السلطات القضائية، بل تديره قوة الردع بشكل مباشر.
ويُعتبر سجن معيتيقة أكبر مراكز للاحتجاز في غرب ليبيا، ويضم أكثر من 12 ألف معتقل، وتنتشر الأمراض بين المحتجزين بسبب الظروف غير الإنسانية، كما أن هناك العديد من قرارات الإفراج لم تُنفذ، ووثقت تقارير حقوقية عن حالات احتجاز طويلة الأمد دون محاكمة، وبقاء بعض النزلاء محتجزين حتى بعد انتهاء مدد سجنهم.
وكما يُعتبر من أكثر مراكز الاحتجاز خطورة في ليبيا، حيث تمارس فيه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، حيث وثقت بعض التقارير ممارسات التعذيب وغيرها من الانتهاكات بحق النزلاء، كما حدث إضراب جماعي عن الطعام احتجاجاً على الاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة.
والمثال البارز على ذلك هو قضية السجين حسن الفرجاني، عضو البرلمان الذي تم اعتقاله في ظروف غامضة من قبل قوات الردع في فبراير 2023، وعلى الرغم من صدور أمر من النائب العام بالإفراج عنه، إلا أن الفرجاني لا يزال محتجزاً، ما يبرز مدى تجاهل هذه الميليشيات للإجراءات القانونية، كما تم اعتقال شقيق الفرجاني وابن عمه أثناء زيارتهما لمكتب المدعي العسكري ما يوضح طبيعة الانتهاكات التي تحدث حتى خارج أسوار السجن، وتبرز قوة الميليشيات داخل الدوائر الأمنية المختلفة.
ويعد اعتقال عالم الاجتماع الروسي مكسيم شوغالي أحد القضايا التي توضح تجاوز كافة القوانين في مسألة الاحتجاز، فشوغالي الذي يرأس صندوق حماية القيم الوطنية في روسيا، اعتقل في العاصمة الليبية طرابلس في 17 مايو 2019، وكان برفقة مترجمه سامر سوئفان، وتم هذا الاعتقال خارج أي إطار قانوني، وبناء على معلومات استخباراتية من دولة أجنبية، يُعتقد أنها الولايات المتحدة، وذلك وفقاً لرئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا خالد المشري ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، وتم احتجازهما في سجن معتيقة ولم يفرج عنهما إلا عبر مفاوضات بين روسيا وحكومة طرابلس في ديسمبر 2020.
وتم إنتاج فيلم وثائقي روسي حول هذا الموضوع بعنوان “شوغالي”، يسرد قصة اعتقاله وسجنه في ليبيا، ويسلط الضوء على الصعوبات التي واجهها في السجن والانتهاكات التي تعرض لها، كما ظهر تحقيق صحفي عبر برنامج “ما خفي أعظم” على قناة الجزيرة، كشف عن وثائق ومراسلات سرية تتعلق بالقضية، وأجرى مقابلات حصرية مع شوغالي بعد إطلاق سراحه، حيث نفى أن يكون رجلا ًعسكرياً وأكد أنه كان يعمل كعالم اجتماع.
وكما هي حال مع عبد الله السنوسي، مدير الاستخبارات العسكرية في عهد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، والذي اعتقل في سجن معيتقة منذ عام 2012، حيث ناشدت ابنته بشكل متكرر بعلاج والداها الذي يعاني من السرطان، حيث نقلت عنه في آخر زياره له بأنه يتعرض للقتل البطيء، ويمنع عرضه على الأطباء، مشيرة إلى أن والداها يواجه مصيراً مجهولاً، لا تعرف خواتيمه.
وأثارت طبيعة الاعتقالات العشوائية والظروف داخل السجون الليبية انتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان الدولية، وهذه الممارسات ليست فقط انتهاكاً للمعايير القانونية، بل تساهم أيضا في استمرار عدم الاستقرار في المنطقة، واستخدام الاحتجاز كأداة لفرض السيطرة وكبت المعارضة وتقويض الجهود الرامية لتحقيق العدالة والمصالحة في ليبيا.
وتسلط مشاركة ميليشيات مثل قوات الردع في نظام السجون الضوء على تداخل خطوط السلطة بين الدولة والميليشيات في ليبيا، في حين تبرر هذه الجماعات أفعالها بضرورات الأمن، فإن ممارساتها غالباً ما تشبه تلك التي تقوم بها منظمات إجرامية أكثر من كونها قوى أمنية شرعية،وعدم وجود رقابة ومساءلة سمح لهذه الجماعات بالعمل فوق القانون، مما يساهم في دورة من العنف والانتهاكات.
وقضية الاعتقالات العشوائية والظروف المزرية في السجون المحلية هي جزء أساسي من الأزمة الليبية الأوسع فما دامت الميليشيات تحتفظ بسلطة غير محدودة، فإنها بالضرورة ستؤثر على القرارات السياسية المرتبطة بالحوار وإقرار دستور وانتخابات.
وكما تتطلب معالجة هذه القضايا إرادة سياسية لا ترتبط بالسلطة في طرابلس بل بمصلحة الليبيين ككل، لأن تأجيل العملية السياسية والانقلاب على التفاهمات لإجراء انتخابات هو في النهاية جزء من الضعف السياسي لحكومة طرابلس التي تتشابك مصالحها مع المجموعات المسلحة.
بقلم نضال الخضري
ليبيا.. النائب العام يأمر بحبس رئيس فرع صندوق التضامن الاجتماعي