تُستخدم الاتهامات بالارتباط بإسرائيل كأداة تشهير سياسي باستغلال الصراعات التاريخية، ومع عدم التمييز بين الحقيقة والاختلاق، يصبح الأمر أزمة في وضع مثل ليبيا التي تعاني من هشاشة الشرعية السياسية.
يظهر التشهير السياسي في أخطر صورة مع وجود انقسامات داخلية وضغوط خارجية، وهذه البيئة التي تحمل معها احتقاناً بين الأطراف المتنافسة يجعل مثل هذه الاتهامات نقطة خطرة على الأخص في ليبيا التي تشهد واقعاً سياسياً معقداً، وتدخلات خارجية على كافة المستويات، وكانت إحدى الحالات التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق قضية نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية السابقة في حكومة عبد الحميد الدبيبة، حيث تمت إقالتها بعد اتهامات لها بالاجتماع مع مسؤولين إسرائيليين، ولكن يبقى من الصعب فصل ما قامت به المنقوش بعيدا عن توجهات الحكومة الليبية، فمسألة الشكوك التي أحاطت بهذه القضية تبقى قائمة نظرا لحساسية هذا الأمر.
ليبيا والقضية الإسرائيلية: تاريخ حساس
كانت مواقف ليبيا من إسرائيل قضية مفصلية في تاريخ ليبيا، فخلال مرحلة معمر القذافي، كانت ليبيا خصماً قوياً لإسرائيل، حيث دعم نظام القذافي بشكل قوي القضية الفلسطينية، وعارض أي شكل من أشكال التعامل معها، وكان أي تلميح بمسألة التطبيع مع إسرائيل، بمثابة حكم إعدام سياسي محتمل في ليبيا، واستمر هذا الإرث، حتى بعد الإطاحة بالقذافي في عام 2011، فالمجتمع الليبي حساس للغاية لأي مظهر من مظاهر التطبيع مع إسرائيل.
ولكن قضية المنقوش التي اندلعت في سبتمبر 2023 فتحت مجالا حول هذا الموضوع مرتبط أساسا باستراتيجية حكومة الدبيبة، فحدوث اجتماع سري في إيطاليا بين المنقوش ووزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، ليس أمرا عاديا ولا يمكن أن يجري بالصدفة على الأخص أن وزارة الخارجية الإسرائيلية أكدت اللقاء، ووصفته بأنه خطوة تاريخية نحو تطوير العلاقات المحتملة بين البلدين، وتسرب هذا الأمر إلى الإعلام يترك أيضا مؤشرات خاصة حول التعامل السياسي لحكومة الدبيبة مع الإرث الليبي، وتوضح الاحتجاجات الواسعة في جميع أنحاء ليبيا ان ما جرى يتحدى رؤية قطاعات كبيرة من السكان إلى أي تفاعل مع إسرائيل، واعتباره خيانة للقيم العربية والإسلامية، خاصة بالنظر إلى الدعم التاريخي الليبي العميق للقضية الفلسطينية.
حاول المسؤولون الليبيون إلى النأي بأنفسهم عن الحدث، وأصدرت حكومة الدبيبة بيانات متضاربة حول طبيعة الاجتماع، واتسمت الردود بعدم الوضوح رغم الإصرار على أن اللقاء لم يكن مخططاً له وليس له غرض رسمي يتعلق بجهود التطبيع، فالحكومة في طرابلس وضعت نفسها في موقع المتهم نتيجة الردود المتباينة، ففي مثل هذه الأمور يصبح النفي غير كاف بل لا بد من كشف كافة الوقائع، فالمنقوش هربت إلى تركيا وإقالتها السريعة أبقى الشكوك حول توجهات الحكومة.
لماذا تنتشر اتهامات العلاقات مع إسرائيل بهذه السرعة؟
تحمل الاتهامات بالارتباط بإسرائيل في الدول العربية قوة خاصة بسبب عدة عوامل، ربما أولها أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ليس مجرد قضية جيوسياسية، بل هو رمز للتضامن العربي والمقاومة ضد الإمبريالية الغربية، فإسرائيل كقوة احتلال هي مسألة محسومة على المستوى العربي عموماً وليس فقط في ليبيا، والتعامل مع المسؤولين الإسرائيليين خيانة للهوية العربية والإسلامية.
عملياً فإن ليبيا تعتبر من البيئات السياسية المضطربة، واستخدام الاتهامات بالارتباط بإسرائيل لتشويه سمعة المعارضين السياسيين تزيد من التوتر السياسي، ففي حالة المنقوش لم تؤد الاتهامات إلى إقالتها فحسب، بل أثارت أيضاً أسئلة أوسع حول قيادة رئيس الوزراء الدبيبة، وقدرته على حكومته والتأثير على تصرفاتهم السياسية، ويعكس هذا الأمر نمطا أوسع في السياسة العربية عموماً، فالحديث عن الارتباط بإسرائيل، بغض النظر عما إذا كانت هذه الادعاءات مثبتة أم لا، تؤدي إلى حالة تشويش فـ”لا دخان بدون نار”، وغالبا ما تكتسب مثل هذه الادعاءات زخماً قبل إثبات الحقيقة.
لكن واقع الحال أن انتشار الاتهامات يعكس حالة عدم الثقة في شفافية الحكومة، وأي اتهام وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الأجنبية، يشكل قوة دفع ضدها، وعلى الأخص في ليبيا حيث تتميز السياسة بالتعاملات الغامضة والروايات المتنافسة من مختلف الفصائل، فالعديد من المحللين ينظرون إلى قضية المنقوش على أنها “اختبار سياسي”، أو حتى تقديم “حسن نية” من قبل حكومة طرابلس تجاه مسألة التطبيع، ومرونة لحلفائها في أوروبا والولايات المتحدة الذين ينظرون إلى هذه القضية باهتمام شديد.
في مسألة المنقوش لم يكن الأمر بالنسبة للقطاعات الليبية ما أنتجته من ردود فعل من قبل الحكومة، إنما ما حاولت كسره على صعيد السياسة العامة الليبية، ويعكس انتشار أخبار اجتماعها مع المسؤولين الإسرائيليين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الليبية، أن أزمة حكومة الدبيبة متعلقة بالدرجة الأولى بأنها تخلق شكوكا حول نفسها، حتى ولو لم يكن اجتماع المنقوش بقرار منها.
الدبيبة في مرمى النيران: النفط والعلاقات الخارجية
في أعقاب فضيحة المنقوش، تركز الاهتمام بشكل متزايد على رئيس الوزراء الدبيبة، فسعيه إلى توسيع العلاقات الاقتصادية الخارجية لليبيا، وخاصة في قطاع الطاقة، وتطوير الشراكات الدولية لتصدير النفط هو جزء أساسي من الخلافات السياسية، ونظراً للطبيعة الحساسة لهذه العلاقات الاقتصادية، فإن الاتهامات التي تربط الدبيبة بإسرائيل هي مسألة سياسية أوسع نطاقاً، فبيع النفط في الخارج، وخاصة إلى البلدان التي يُنظر إليها على أنها تترتبط بعلاقات مثيرة للجدل أو سرية بإسرائيل، يمكن أن يصبح بسهولة إلى شكوك بنوايا الحكومة، ومثل هذه الاتهامات تجد صدى عميقاً لدى الناس الذين يشككون بالفعل في أي تعاملات خارجية يُنظر إليها على أنها تهدد السيادة الوطنية.
بالنسبة لدبيبة، كانت تداعيات فضيحة المنقوش بمثابة ضربة سياسية، لكنها تعكس أيضا المخاطر الأوسع التي يواجهها في محاولة بناء علاقات خارجية دون وجود اتجاه استراتيجي واضح يقوم بعملية فصل في القضايا الحساسة مثل مسألة العلاقة مع إسرائيل، فالسؤال حول ما إذا كانت ليبيا تتعامل سراً مع إسرائيل، وخاصة في قطاع الطاقة هو بحد ذاته مأزق سياسي لأنه ينطلق من سياسة الحكومة المتخبطة، والاتهامات الموجهة إلى المسؤولين الليبيين هي جزء من نمط أوسع في جميع أنحاء العالم العربي، حيث يُقابَل أي ارتباط بإسرائيل بالشك والغضب في كثير من الأحيان، وهو ما تجاهلته حكومة الدبيبة عندما تعاملت مع قضية المنقوش، فموجة اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية بموجب “الاتفاقيات الإبراهيمية” التي بدأها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لا يبرر عدم التعامل الجدي من قبل حكومة الدبيبة بوضوح في هذه المسألة.
الاتهامات بوجود علاقة مع إسرائيل ليست أداة فعّالة للتشهير السياسي فقط، بل هي أيضاً تنقل التصورات بشأن السيادة الوطنية، سواء في ليبيا أو في العالم العربي، ففي ليبيا، يسلط إقالة نجلاء المنقوش الضوء على المخاطر التي يواجهها الساسة عند الانخراط حتى في أكثر الإيماءات الدبلوماسية غير الرسمية تجاه إسرائيل، وبالنسبة لرئيس الوزراء الدبيبة، فإن الإبحار في هذه المياه يتطلب الموازنة بين الاحتياجات الاقتصادية الليبية وحساسية الجمهور تجاه أي خيانة للهوية الوطنية أو العربية، ويسلط الانتشار السريع لهذه الاتهامات الضوء على انعدام الثقة العميق والتقلبات التي لا تزال تحدد العلاقات العربية الإسرائيلية، حتى في عصر التطبيع الدبلوماسي المتزايد، إضافة إلى طرح سؤال مشروع لماذا الخيار الاسرائيلي تحديدأ، ليس فقط لتاريخها باغتصاب الحقوق العربية، ولكن أيضا نتيجة علاقتها المشبوهة بإفريقيا، والتي لم تثمر إلى الآن إلا عن استغلال هذه الدول.
بقلم نضال الخضري
رئيس السنغال يُعين باتيلي مبعوثاً للوساطة بين “إيكواس” وكونفدرالية الساحل