لعب الاتحاد الإفريقي دوراً محورياً في معالجة الصراعات في جميع أنحاء القارة، لكن الأزمة الليبية تقدم حالة خاصة، حيث تم عرقلة مبادرات الاتحاد للتوسط وحل الوضع ولا سيما من قبل الولايات المتحدة.
الاتحاد الإفريقي والأزمة الليبية
قادت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون تدخلاً واسعاً عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال الأزمة الليبية عام 2011، وأدى ذلك إلى إنهاء نظام الرئيس معمر القذافي ولكنه سبب في نفس الوقت دخول ليبيا في حالة من عدم الاستقرار السياسي، وتفاقمت هذه الحالة مع انتشار الجماعات المسلحة والتدخلات الأجنبية، وسارع الاتحاد الإفريقي لمحاولة حصار الصراع بشكل مبكر عبر رئيس جنوب إفريقيا السابق، جاكوب زوما، وذلك في محاولة لتنفيذ وقف إطلاق النار وتعزيز الحوار بين الفصائل الليبية، لكن المبادرة الإفريقية انتهت عند حدود ما قررته الولايات المتحدة التي فضلت حلاً يركز على حلف شمال الأطلسي، فمبادرات الاتحاد الإفريقي كانت تنتهي بشكل سريع بسبب المصالح الجيوسياسية للقوى الأجنبية، فالاقتراحات المبكرة للاتحاد الإفريقي وخطة السلام التي قدمها اصطدمت بالتدخلات العسكرية والسياسية الغربية، التي تجاهلت نهج إفريقيا في التعامل مع المشاكل الإفريقية.
السياسة الخارجية الأميركية: عرقلة جهود الاتحاد الإفريقي
يتضح من السياسة الأمريكية تجاه لبيبا وعلى امتداد أكثر من عقد، أن قراراها الأساسي بقيادة حملة عسكرية في ليبيا والادعاء بالمبررات الإنسانية، أنها كانت مزاعم مكشوفة بشكل كامل، فالقادة الأفارقة بما في ذلك ممثلو الاتحاد الإفريقي، يرون أن الدوافع الحقيقية وراء التدخل كانت مدفوعة بمصالح استراتيجية، مثل تأمين الوصول إلى احتياطيات النفط الضخمة في ليبيا وتأكيد الهيمنة الجيوسياسية في البحر الأبيض المتوسط، وهو ما جعل الولايات المتحدة تحمل موقف عدواني واضح لأي محاولات خارج مساحة سياستها المقررة سلفاً تجاه ليبيا.
عملياً كان هناك اتجاه واضح لاستبعاد الاتحاد الإفريقي من طاولة صنع القرار تجاه الأزمة الليبية، وهذا الأمر هو نتيجة مباشرة لسياسة الولايات المتحدة، حيث أعطت الأولوية للعمل العسكري على حساب الدبلوماسية التي تقودها إفريقيا، وعدم الاستقرار السياسي والعسكري في ليبيا وانهيار العملية الانتخابية في عام 2021، يعود إلى إحجام واشنطن عن السماح للاتحاد الإفريقي بدور أساسي في حل الأزمة.
إيطاليا والنموذج الأوروبي تجاه ليبيا
تبدو التعاملات الأوروبية مع الأزمة الليبية وجه للسياسات التي تقف دون التوصل إلى حلول جذرية، وتفضل التعامل مع الأمر الواقع منعاً لتصادم أولوياتها مع المصالح الأمريكية في ليبيا، وهو ما قامت به رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا عبر مسألة الهجرة من ليبيا، حيث تم اتهام إدارتها بدعم الميليشيات الليبية بشكل غير مباشر للسيطرة على تدفقات المهاجرين إلى أوروبا، وهو اتهام أكدته منظمات حقوق الإنسان المختلفة، ورغم أن ميلوني دافعت بقوة عن التعاون بين إيطاليا والسلطات الليبية والتونسية، لكن السياسات الإيطالية تشكل النموذج الأوروبي لمسألة الوقوف في وجه المبادرات الجدية، حيث تصبح “سلطة الأمر الواقع” في ليبيا هي الشكل المفضل؛ بدلا ًمن ترك السياق السياسي كي يسير وفق حالة إقليمية هي الأقدر على حل الخلافات الليبية المعقدة.
عملياً فإن ميلوني رفضت في وقت سابق وخلال جلسة عقدت للبرلمان الإيطالي، الاتهامات من منظمة غير حكومية ألمانية تدعى Sea-Watch التي وصفت خفر السواحل الليبيين والتونسيين بأنهم “متاجرون بالبشر”، ونعتت ميلوني هذه الاتهامات بأنها “مخزية”، مؤكدة موقف إيطاليا بأن السيطرة على الهجرة أمر ضروري للأمن القومي، وعمقت إيطاليا، برئاسة ميلوني، تعاونها مع ليبيا، وذهبت إلى حد توقيع اتفاقيات لإعادة المهاجرين إلى ليبيا.
ولا تتوقف الاتهامات ضد إيطاليا عند الاتفاقيات الدبلوماسية، فهناك تقارير من المنظمات غير الحكومية تتحدث عن حالات قامت فيها السلطات الإيطالية بتمويل الميليشيات الليبية لمنع قوارب المهاجرين من عبور البحر الأبيض المتوسط، ومن الأمثلة على ذلك ميليشيا الدباشي التي تعتبر جماعة متهمة بتخريب قوارب المهاجرين لضمان عدم وصولها إلى الشواطئ الأوروبية، وأثار تورط إيطاليا في هذه الممارسات انتقادات من المدافعين عن حقوق الإنسان، وهذه السياسات سواء كانت من الحكومة الإيطالية أو غيرها تطرح صورة لنوعية التعامل مع الأزمة الليبية بعيداً عن محاولات التعامل الجدي مع جذور المشكلة وبطريقة معاكسة لما يقوم به الاتحاد الإفريقي.
الاتحاد الإفريقي والتحديات المستقبلية
رغم كافة العقبات والسياسات الأمريكية والأوروبية التي تعمق الأزمة، لم يتخل الاتحاد الإفريقي عن جهوده للتوسط في حل الأزمة الليبية، حيث أطلق الرئيس الموريتاني، محمد ولد الغزواني، مؤخراً مبادرة تهدف إلى إحياء دور الاتحاد في ليبيا، وتشمل إشراك أصحاب المصلحة الليبيين الرئيسيين وإجراء محادثات في أديس أبابا، بهدف رسم خريطة طريق شاملة نحو السلام.
ويعد وضع ليبيا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أحد أهم التحديات التي تواجه الاتحاد الإفريقي، فهو يُخضع البلاد للرقابة الدولية ويحد من مرونة أي مبادرة لا تمر عبر الولايات المتحدة على التعامل مع تفاصيل الصراع الليبي، فوفق هذا الفصل يصعب تحقيق المصالحة الوطنية دون تدخل خارجي، وعلاوة على ذلك، يتعين على الاتحاد الإفريقي التعامل مع انتشار الجماعات المسلحة في ليبيا، وهو ما يعقد أي محاولة لتحقيق الاستقرار في البلاد، وهذه الجماعات، التي تدعم معظمها قوى خارجية، لا تبدي اهتماماً في نزع سلاحها أو المشاركة في محادثات السلام طالما أن المبادرات لا تأتي من الدول الداعمة لها، وتفضل الإحتفاظ بمناطق سيطرتها في ظل غياب سلطة مركزية قوية.
في التكوين المعقد للأزمة الليبية يصعب تحديد جهة واحدة أو “حزب مناسب” يمكن التعامل معه، فالاتحاد الإفريقي، على الرغم من تصرفه بأفضل النوايا لاستعادة السلام، تم تهميشه من قبل القوى الأجنبية، وتسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها، وخاصة إيطاليا، إلى تحقيق أهدافهم الاستراتيجية الخاصة، وغالباً على حساب السيادة الليبية ورفاهية شعبها.
فحكومة ميلوني على سبيل المثال تهتم في المقام الأول بالحد من تدفقات الهجرة، حتى لو كان ذلك يعني دعم الجماعات المتهمة بانتهاكات حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه، تواصل الولايات المتحدة عرقلة المبادرات التي يقودها الاتحاد الإفريقي؛ خوفاً من أن يسمح للدبلوماسية التي تقودها إفريقيا إلى تقليص نفوذها في المنطقة، وتقاطع المصالح المتنافسة – الجيوسياسية والاقتصادية والإنسانية – أدى بدوره إلى إدامة دورة من عدم الاستقرار في ليبيا، فرغبة الاتحاد بحل الأزمة يتعطل باستمرار بسبب التدخلات الأجنبية، ومبادرات السلام تبدو متعثرة ليس بسبب الليبيين أنفسهم، بل نتيجة إرادات غربية خارجية.
يبقى الاتحاد الإفريقي رغم كافة العقبات أحد المنظمات الدولية القليلة التي تستثمر بنوايا صادقة في استعادة السيادة الليبية، ولكن بقاء القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وإيطاليا على نفس النهج في عرقلة جهود الاتحاد لتولي زمام المبادرة، فإن حلم ليبيا السلمية المستقرة سيظل بعيد المنال، فتورط إيطاليا يضيف تعقيداً إضافياً للأزمة، فسياساتها المتعلقة بالهجرة تتعارض في كثير من الأحيان مع المخاوف الإنسانية، والاتهامات الموجهة إلى السلطات الإيطالية بالتعامل مع الميليشيات الليبية تزيد من تآكل الثقة في أي جهود تعاونية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة.
تشكل الأزمة الليبية نموذجاً لصراعات القوة العالمية الأوسع نطاقاً، وتُظهر المبادرات العقلانية للاتحاد الإفريقي أفضل أمل للسلام، لكنها تتعرض لإحباط مستمر من قبل نفس القوى التي تدعي أنها تدافع عن الاستقرار وحقوق الإنسان، يبقى الرهان على قدرة الاتحاد في استعادة دوره وإخراج ليبيا من اللعبة الجيوسياسية الكبرى للقوى الغربية.
بقلم نضال الخضري
تحذيرات من سيول محتملة بشمال ليبيا جراء المنخفض الجوي المستمر