على امتداد قرن تقريباً استطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن تتحول من حركة نشأت في مدينة الإسماعيلية عام 1928 إلى شبكة عالمية تمتد من الشرق الأوسط إلى قلب أوروبا، ولم يكن تمددها مجرد تدفق للاجئين السياسيين، بل مشروعاً استثمر بيئات الحرية.
تكشف التحقيقات الأوروبية اليوم عن شبكة متشعبة تمارس حضوراً فاعلاً في المجتمعات المسلمة داخل القارة، وتتدخل في السياسة المحلية والأوروبية، وتستفيد في الوقت نفسه من أموال دافعي الضرائب ومن غطاء “مكافحة الإسلاموفوبيا” و”تمثيل المسلمين”، بينما تتهمها تقارير رسمية وبرلمانية بالسعي إلى بناء نفوذ موازٍ لقواعد الدولة الوطنية، وبث أيديولوجيا انفصالية تضر بصورة الإسلام وتنعكس سلبياً على ملايين المسلمين الذين لا علاقة لهم بالمشروع الإخواني.
ومع تراكم الخبرات، أسست الجماعة شبكة واسعة من المراكز والمساجد والاتحادات والجمعيات، وسعت إلى أن تكون ممثلاً للمسلمين أمام الحكومات الأوروبية. لكن هذا الحضور، الذي حظي طويلاً برعاية رسمية، انقلب في العقد الأخير إلى عبء أمني وسياسي، خصوصاً مع تراكم تقارير متخصصة تكشف حجم النفوذ، وتعقد الشبكات، ومحاولات التأثير في القوانين والمجتمعات، وصولاً إلى قضايا تمويل مشبوه واختلاسات وعلاقات بجهات خارجية.

من الإسماعيلية إلى ميونخ.. كيف وصل الإخوان إلى أوروبا؟
بدأت القصة مع موجات الهجرة السياسية بعد صدام الإخوان مع أنظمة عربية في مصر وسوريا خلال الخمسينيات والستينيات، حيث وجد قادة بارزون مثل سعيد رمضان، صهر حسن البنا، في أوروبا مساحة آمنة للعمل وإعادة بناء التنظيم، وكانت كل ألمانيا وسويسرا المحطتين الأبرز، وفي ميونخ جرى تأسيس أحد أهم المراكز التي لعبت دوراً حاسماً في انتشار الشبكة، ووثقت دراسات غربية دقة دور مسجد ميونخ في توطيد التحالف بين بعض أجهزة الاستخبارات الغربية والجماعة خلال الحرب الباردة.
ومع مرور الزمن، تأسست مراكز وكيانات أخرى في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وشهد عام 1989 ولادة اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا الذي تحول إلى مظلة شاملة لشبكة الإخوان، قبل أن يغير اسمه سنة 2020 إلى اتحاد مسلمي أوروبا.
رغم أن أوروبا استقبلت الجماعة بوصفها ضحية للقمع العربي، إلا أن الشبكات التي بنتها لاحقاً تجاوزت العمل الدعوي والخيري، ووصلت إلى مجالات التعليم والتدريب والتمثيل السياسي وجمع التمويل، وأصبحت جزءاً من المشهد الإسلامي والمجتمعي في دول عدة.

شبكة متماسكة.. وولاء تنظيمي يتجاوز الحدود
في عمق هذا الحضور، يتضح أن الإخوان في أوروبا ليسوا مجرد جمعيات محلية مستقلة، حيث تشير التقارير والتحقيقات إلى نمط شديد التنظيم:
- سويات متعددة من المؤسسات تمتد من الجمعيات الصغيرة إلى الاتحاد الأوروبي الواسع.
- رابط فكري وتنظيمي يجعل القرارات الكبرى مرتبطة بالجبهة القيادية للتنظيم الدولي.
- تمويلات عابرة للحدود تشمل تبرعات الأعضاء، ومساهمات “سهم الدعوة”، ودعماً خارجياً من دول عربية وإسلامية.
- تضارب داخلي على النفوذ كما يظهر في الصراع الأخير بين جناح لندن وجناح إسطنبول حول السيطرة على أفرع أوروبا، ما يثبت أن المال والسلطة عنصران جوهريان في استمرار الشبكة.
الأخطر أن هذه المؤسسات تتمتع بصفة “جمعيات رسمية” في دول أوروبية، ما يجعل ملاحقتها مسألة قانونية معقدة.

دول أوروبا تستفيق.. بداية التحول من الاحتضان إلى الشك
حتى عام 2014، كانت دول أوروبية كبرى تتعامل مع الجماعة كتيار إسلامي “معتدل” قادر على لعب دور في اندماج المسلمين، وقدمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى النمسا تسهيلات واسعة، ومنحت الإخوان هامشاً مهماً للعمل داخل المجتمعات.
لكن هذا المشهد تغير خلال العقد الأخير لأربعة أسباب رئيسية:
- الصعود الكاسح للإخوان بعد الربيع العربي ثم السقوط السريع في مصر، فالصعود إلى الحكم ثم الإطاحة بهم في 2013 أعاد فتح ملف العلاقة مع الجماعة، خصوصاً مع ضغط سعودي – إماراتي – مصري هائل على العواصم الغربية لتحجيم نفوذ التنظيم.
- تزايد الهواجس الأمنية بعد هجمات داعش، حيث بدأت السياسات الأوروبية تنظر بريبة إلى أي أيديولوجيا تُقدم الدين كمنظومة سياسية، حتى لو رفعت شعار السلمية، وفجأة صار “الإسلام السياسي” هو الخطر الأكبر، ولم يعد الغرب يميّز بين درجاته.
- ظهور تقارير استخباراتية مفصلة؛ فتم نشر تقارير في ألمانيا والنمسا وفرنسا تؤكد وجود شبكة إخوانية منظمة تعمل باستراتيجية “التغلغل الناعم”.
يضاف إلى العوامل السابق تحقيقات السويد حول اختلاس ما يقارب مليار كرونة من مدارس وجمعيات مرتبطة بالإخوان، إضافة إلى قضايا مشابهة في ألمانيا والنمسا.

دول أوروبا في مواجهة مباشرة
المشهد الأوروبي اليوم متشابك، لكنه يتجه نحو تجفيف حضور الإخوان ومراقبة شبكاتهم، فألمانيا كانت المركز الأهم للجماعة منذ الخمسينيات، وخلال السنوات الأخيرة تغير الموقف جذرياً، فجهاز حماية الدستور صنف الجماعة كجزء من شبكة عالمية متطرفة، وخضع العشرات من المراكز للمداهمات، وبدأت مطالبة حزبية واسعة لحظر الإخوان نهائياً، وتمت ملاحقة جمعيات مالية مرتبطة بشركة Europe Trust التي اتُهمت بتحويل عقارات إلى مراكز إخوانية.
واللافت أن الإخوان في ألمانيا ما زالوا يرفضون الكشف عن مصادر تمويلهم أو هياكلهم القيادية، ما يزيد الشكوك.
أما في النمسا فبعد هجوم فيينا 2020، تم إطلاق عملية أمنية تُعد الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وشملت مداهمة 60 موقعاً مرتبطاً بالإخوان، وفتح تحقيقات في التمويل والدعاية والنشاط الدعوي، وتأسيس مركز لتوثيق الإسلام السياسي، إضافة لحظر شعار الإخوان ومنعهم من أي عمل سياسي.
ثم جاءت قضية الجاسوس داخل جهاز الاستخبارات الداخلي لتكشف عمق تغلغل الجماعة ومدى محاولتها تحصين شبكتها من الداخل.
في فرنسا التي كانت أول دولة أوروبية وقعت اتفاقاً غير معلن مع الإخوان في الثمانينيات، مكنتهم من تأسيس مؤسسات ضخمة كالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، ثم تبدلت الصورة من خلال قانون “مكافحة الانفصالية” الذي شدد الرقابة على الجمعيات، وتم حلّ المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في 2025، ثم ظهر قرار رئاسي بتجميد الأموال وملاحقة التمويل الخارجي، وتؤكد التقارير الرسمية وجود 140 مسجداً و280 جمعية مرتبطة بالإخوان.
في المقابل كشف تحقيق صحفي في السويد عن شبكة من الأئمة، المرتبطين بالإخوان، اختلست نحو 100 مليون دولار من تمويلات حكومية مخصصة للمدارس ورياض الأطفال، وهذه الفضيحة دفعت الحكومة للتحرك نحو إعداد أول “خريطة للإسلام السياسي” في البلاد.
وفي سويسرا وبلجيكا وإيرلندا التشيك بدأت مرحلة مراجعة شاملة، ما ينذر بأن الملف لم يعد شأناً محلياً، بل أصبح قضية أوروبية عامة.

كيف ينعكس هذا على المسلمين في أوروبا؟
المفارقة المؤلمة أن الصورة السلبية التي تصنعها ممارسات الجماعة تنعكس على 30 مليون مسلم يعيشون في القارة، فعندما تنكشف شبكات تمويل غير قانونية أو خطاب تحريضي، تتبنى بعض الأحزاب اليمينية خطاباً عاماً ضد الإسلام نفسه، وليس ضد التنظيم، فالإخوان يستفيدون من الحرية الأوروبية، لكنهم يتركون الجاليات المسلمة تدفع الثمن.
عملياً فإن الوثائق والتقارير تكشف حقيقة حساسة، فبعض أجهزة الاستخبارات الأوروبية، خصوصاً في الحرب الباردة، استخدمت الجماعة كورقة في مواجهة القومية العربية أو النفوذ السوفيتي.
وبعض الحكومات استمرت في تقديم دعم غير مباشر عبر الاعتراف بمؤسسات إخوانية ممثلة للمسلمين،
لكن هذا التقدير تبدل اليوم، وأصبحت تلك الأجهزة نفسها هي التي تدق ناقوس الخطر.
أوروبا تكتشف متأخرة، والإخوان يواجهون نهاية مرحلة
الإخوان في أوروبا يعيشون الآن أصعب لحظاتهم منذ وصولهم قبل سبعين عاما، فالشبكة التي تمددت بهدوء أصبحت تحت المجهر، والمؤسسات التي كانت تتمتع برعاية رسمية باتت تواجه الإغلاق والمساءلة، والتمويلات التي كانت تتدفق بحرية أصبحت تحت التجميد.
لكن الأهم أن الانقسام الداخلي للجماعة في أوروبا بين لندن وإسطنبول والمكتب العام يكشف هشاشة البنية التي طالما بدت صلبة، وأوروبا تحارب مشروعاً سياسياً مغلفاً بالدين، كان يخدم مصالحها سابقاً، واليوم تقف ضده بعد أن تمدد داخل المؤسسات، فالمشهد الأوروبي يتغير، وربما تتغير معه خريطة حضور الإخوان في القارة كلها، ولا يمكن أن نغفل هنا الموقف الأميركي أيضاً ففي 24 نوفمبر 2025، وقّع ترامب أمراً تنفيذياً يشرع عملية لتصنيف بعض فروع “الإخوان المسلمين” كـ “منظمات إرهابية أجنبية foreign terrorist organizations” ويُعد هذا الموقف من أشد المواقف التي اتخذتها واشنطن ضد الجماعة منذ عقود، فهو ليس مجرد إدانة كلامية أو سياسية — بل خطوة رسمية نحو تصنيف الإرهاب، مع ما يحمله ذلك من تداعيات قانونية وسياسية، ليس فقط في الشرق الأوسط وأوربا، بل أيضاً في علاقات أميركا الدولية.
بقلم نضال الخضري
مصر تواصل استقبال جرحى غزة مع وصول الدفعة 32 للعلاج
