19 سبتمبر 2024

يطرح الغرب الليبي أزمة مزدوجة عبر تشابك الحالة السياسية فيه مع الوضع الأمني، فحكومة الدبيبة المنتهية ولايتها ليست بعيدة عن حالة الفوضى التي تسود طرابلس ومحيطها.

وتشكل ظاهرة الميليشيات في الغرب الليبي مفارقة على مستوى شرعية الدولة، فالمسألة لا ترتبط فقط بالوضع الأمني والاشتباكات الدائمة وعمليات الخطف، بل تتجاوزها لتشكل حالة من الارتباط مع مؤسسات الدولة التي لا تستطيع العمل دون توافق مع المجموعات المسلحة المنتشرة التي تتحكم عمليا بكافة التفاصيل التي تخص المواطنين.

والمسؤولون الليبيون في الغرب والنشطاء الاجتماعيون مهددون بشكل دائم، والقرارات الحكومية أيضا تخضع لتوزع القوى المسلحة، وما حدث في معبر رأس أجدير يشكل نموذجا أساسيا في قدرة هذه المجموعات على التحكم بأهم مفاصل الدولة، فالمعابر الحدودية التي تعتبر إحدى رموز السيادة خضعت لتوازن الميليشيات ومصالحها المتناقضة.

المشهد الليبي المضطرب

وجدت الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة عبد الرحيم الكيب ما بين 2011 – 2013 نفسها في موقف حرج، حيث لم يكن لديها خيار أفضل من دفع الرواتب للثوار والميليشيات لتثبيت الأمن، وهذا الإجراء، الذي كان مؤقتا في الأصل، استمر على مر السنين، مما ساهم في تثبيت وجود هذه الجماعات على الأرض، وفي عام 2014 بلغت الفوضى والإرهاب ذروتهما.

وأما في الشرق، ظهر اللواء خليفة حفتر كقوة تملك إدارة مختلفة عما هو موجود في الغرب، حيث هاجم الجماعات الإسلامية المتطرفة التي كانت تسيطر على أجزاء من البلاد، وأطلق عملية “الكرامة”، التي استهدفت وقف انتشار هذه الجماعات، بينما في الغرب، كانت الجماعات الإسلامية المتطرفة تسيطر على الحكم.

وفي عام 2016، توصل فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني الذي تم تعيينه بعد اتفاق مدينة الصخيرات بالمغرب في ديسمبر 2015، إلى اتفاق مع عدة مجموعات مسلحة في طرابلس، وأعطتها الشرعية من خلال جعلها وحدات تابعة لوزارة الداخلية أو الدفاع، ما منحها نفوذا أكبر داخل الدولة، وعند تولي عبد الحميد الدبيبة رئاسة الحكومة الانتقالية في 2020، استمر تواجد الميليشيات المسلحة وأصبح استيلاؤها على المباني الحكومية والمسؤولين ممارسة شائعة.

الرسم البياني التالي يوضح فارق الاستقرار بين الشرق والغرب الليبيين منذ عام 2011 وحتى عام 2019

مسار الفوضى في الغرب الليبي

ويمكن النظر إلى التعثر السياسي في ليبيا منذ عام 2020 من زاوية الفوضى الأمنية، فحكومة عبد الحميد الدبيبة تملك حدود ضيقة داخل مناطق سيطرتها، حيث تشكل الميليشيات المسلحة جزء من عدم قدرتها على التعامل مع حلول سياسية واقعية للأزمة الليبية، فهي تخلق توازنا مع كافة الميلشيات التي باتت قوة أمر واقع تتصرف وفقا لمصالحها.

وفي وقت تستفيد فيه حكومة طرابلس من هذا الوضع لبقائها، فلقد أسست علاقات مع تلك المجموعات عبر دفع رواتب لقادة المجموعات بدلا من محاولة رغم الصدامات التي تطفو على السطح أحيانا.

وعمليا فإن حوادث الاختطاف لبعض المسؤولين تقدم مؤشرات بأن الأجهزة الحكومية تملك صلات واضحة مع المجموعات المسلحة، فعمليات الخطف تنتهي في أغلب الأحيان بإطلاق سراح المخطوف دون أي تفسيرات واضحة، وهذا الأمر يطرح تساؤلات حول قدرة أي مسؤول حكومي على اتخاذ قرارات دون مراعاة شروط الحالة الأمنية.

ومن أبرز حالات الاختطاف الغامضة ما حدث مع مدير مركز المعلومات والتوثيق بوزارة الاقتصاد والتجارة، حسين اللموشي، حيث اقتادته مجموعة مسلحة إلى جهة غير معلومة، كما تعرض مدير المركز الوطني للامتحانات، أحمد مسعود، للاختطاف بعد تقديم استقالته واتهامه لموظفين بتسهيل الغش.

ولكن الحالة الأمنية في الغرب ليست جديدة، فهي تطورت بشكل واضح في ظل الحكومة الليبية الحالية، ومنذ عام 2020 أصبحت الحوادث الأمنية جزء من كافة التفاصيل الخاصة بعمل الحكومة أو حتى بحياة المواطنين العاديين.

ويعيش سكان الغرب الليبي حالة انعدام الأمن التي تسببت في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، فالاشتباكات بين الميليشيات المسلحة تتسبب في مقتل وجرح العديد من المدنيين ، كما أن عمليات الاختطاف تُلقي بظلالها الثقيلة على حياة المواطنين الذين يعيشون في خوف دائم، ويقدم الرسم البياني التالي مقاربة واضحة لواقع الفوضى في غرب ليبيا:

ويوضح الخط البياني خصوصا في مسألة عمليات الاختطاف نوعا من الثبات، ما يوحي بأن الحكومة لا تملك سياسة واضحة للحد من هذه الظاهرة، أما الاضطرابات الأمنية الأخرى فانخفضت قليلا لكنها مازالت ضمن حدود الخطر لتصبح جزء من حياة المواطنين، وهذا الأمر خلق توزعا داخل مدن الغرب ضمن خارطة للنشاطات الإجرامية يمكن قراءتها وفق الرسم البياني التالي:

ويقدم الرسم البياني تحليلا نوعيا وكميا للحوادث الأمنية في مناطق مختلفة من الغرب الليبي، ويطرح توزع الأنشطة الإجرامية ومعدلاتها في تلك المناطق، والتي تشمل طرابلس، مصراتة، الزاوية، صبراتة، ترهونة، والخمس.

وتشهد طرابلس أعلى نسبة من الاشتباكات العنيفة، وتعتبر أيضا مركزا لحالات الاختطاف، أما مصراتة فهي معقل العديد من الميليشيات، وتشهد أنشطة التهريب، لكن تركيز الميليشيات فيها هو على النزاعات الداخلية.

وأما في مدينة الزاوية يظهر التهريب كأكبر أشكال النشاطات الإجرامية، وذلك نتيجة موقعها الجغرافي الاستراتيجي على الساحل والمنافذ البحرية.

بينما تعتبر صبراتة نقطة ساخنة لتهريب البشر والاختطاف، وهذا الأمر مرتبط بطرق الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط، أما ترهونة فتعاني من حالات اختطاف بسبب الصراعات القبلية أو التوترات السياسية المحلية، وفي المدن الخمسة هناك معدلات أقل نسبيا من الحوادث الأمنية، لكنها لا تزال تشهد بعض النشاطات غير القانونية.

صورة مختلفة في الشرق الليبي

وفي الوقت الذي يعاني فيه الغرب من فوضى الميليشيات، ينظر العديد من سكانه إلى الشرق الليبي كمنطقة تتمتع بقدر من الاستقرار والأمن.

وتحت قيادة خليفة حفتر، استطاع الشرق تحقيق نوع من الاستقرار الذي غاب عن الغرب، رغم أنه عانى سابقا من سيطرة المجموعات المتطرفة التي قاد حفتر معركة ضدها، وأبعد شبح عنفها عن الشرق، ويعود الاستقرار في شرق ليبيا لعاملين أساسيين:

  • الأول تأسيس جيش قوي وموحد وذلك بعكس الشرق الذي اعتمد على إنشاء “كتائب” بتسميات مختلفة تعتمد غالبيتها على أشخاص مقربين إما من رئيس الحكومة أو من قيادات المجموعات المسلحة، ويصعب أحيانا التمييز بين الوحدات النظامية وباقي الميليشيات نظرا لتشابكها.
  • الثاني اعتماد حفتر على القوة الليبية الذاتية بدلا من الاستناد إلى السياسات الأوروبية أو الأمريكية، فالترابط بالشرق أساسه سياسات تعتمد على مصلحة ليبية كاملة، وتحالفات مع دول لا تملك أي ماض استعماري في ليبيا.

إن حكومة الغرب الليبي ليست عاجزة فقط عن جمع السلاح وإنهاء ظاهرة المجموعات المسلحة، بل أيضا، وبعكس الحالة في الشرق، لا تملك إرادة داخلية لرسم مسار ليبي متوازن، وترى في الميليشيات المنتشرة جزءا من مبررات وجودها، ورغم أن الولايات المتحدة قامت بإعادة هيكلة بعض الأجهزة الأمنية، لكنها في النهاية لم تكن تنظر إلى الأمر إلا ضمن قدرتها على تحقيق مصالحها، والصورة في الشرق مختلفة تماما فوضع مصلحة ليبيا أولا جعل من بنغازي قادرة على ضبط الأمن وتحقيق مصلحة الليبيين في شرق ليبيا عموما.

بقلم مازن بلال

لافروف: الناتو دمر ليبيا بدعوى الديمقراطية

اقرأ المزيد