يستخدم الغرب سلاح تجميد الأصول المالية كجزء من استراتيجيته للحفاظ على مصالحه، وهذا ما حدث مع ليبيا منذ عام 2011، ويتكرر مع روسيا أيضاً، فهل يمكن للدول استرجاع تلك الأموال المنهوبة؟
وتوضح التجربة الليبية في استرجاع أصولها المالية أن هذا الإجراء لا ينفصل عن عمليات “النهب الاستعماري”، لكنه يتم وفق إجراءات خاصة تحاول إضفاء شرعية عليه، فالادعاء بأن تلك الأموال محفوظة في أماكن موثوقة وآمنة وفي دول معتمدة، ليس صحيحاَ، بالإضافة إلى أن قيمتها تتناقص عاماً بعد عام بسبب عدة عوامل، من بينها الفساد والإدارة السيئة وتداخل المصالح الدولية.
وهذا النمط من التعامل الغربي مع أموال الدول يخضع بالدرجة الأولى لطبيعة السياسات الأوروبية والأمريكية في الضغط لتنفيذ أجنداتها، وفي الحالة الليبية فهناك مخاوف حقيقية بشأن مصير هذه الأصول في ظل عدم وجود آليات فعالة لاستردادها بشكل كامل، أما في الحالة الروسية فهناك تجاوز لكافة المعايير الدولية مع بعض تصريحات المسؤولين في دول “الناتو” باستخدام هذه الأموال لتمويل الحرب الأوكرانية.
الأصول الليبية المجمدة
وتحتفظ عدة دول غربية بأصول ليبية تقدر بمئات المليارات من الدولارات يتوقع بعضهم أن تصل الى 500 مليار دولار، حيث تم تجميدها بموجب قرارات الأمم المتحدة رقم1970 و1973 التي تم اعتمادها من قبل مجلس الأمن بـ 2011.
وشملت الأصول الليبية ودائع بنكية، وعقارات، واستثمارات متنوعة، إلا أن تحقيقات صحفية ومصادر قضائية كشفت عن انتهاكات متعددة لقواعد التجميد الأممية، حيث تم الإفراج عن بعض هذه الأصول واستخدمت بطرق غير قانونية، فحسب صحيفة “لوسوار” البلجيكية، تم رفع التجميد عن 2.3 مليار دولار من الأموال الليبية في بلجيكا، ونحو 800 مليون دولار منها ذهبت إلى جهة غامضة.
وهناك تقرير في صحيفة “Libyan Express” كشف أن بلجيكا انتهكت العقوبات من خلال السماح بتحويل الفوائد من الأصول المجمدة إلى حسابات تديرها هيئة الاستثمار الليبية (LIA)، التي تحيط بها تهم فساد متعددة على الأخص في تسوية النزاعات المالية كما فعلت في عام 2017 عندما توافقت مع البنك الفرنسي Société Générale على دفع 815 مليون جنيه إسترليني لتسوية نزاع قانوني طويل الأمد مع المؤسسة الليبية للاستثمار، يتعلق بالاحتيال والفساد في معاملات تمت بين عامي 2007 و2009.
وفي عام 2014 أزالت المؤسسة شركة Palladyne من إدارة أصولها بسبب مخاوف من سوء إدارة الأموال، ما أدى إلى نزاعات قانونية متعددة في المحاكم الدولية، وهناك قضايا أخرى تتعلق بالرشاوى والاحتيال المالي، بما في ذلك دعاوى قضائية ضد شركات مالية دولية مثل Goldman Sachs و Tradition.
ولكن الأصول الليبية ليست محصورة فقط في بلجيكا فهي موزعة بين عدة دول ما يثير مخاوف متزايدة حول فقدانها أو ضياعها، ويوضح الرسم البياني التالي توزع الأصول حسب البلدان وقيمتها في كل دولة:
تحديات استرداد الأصول
وبعد مضي أكثر من عقد ونصف على الإجراءات الغربية تجاه ليبيا، فإن التحديات تجاه استرداد الأصول تزداد صعوبة، وذلك بسبب التحديات التي يفرضها بالدرجة الأولى الانقسام السياسي الذي يجعل من الصعب البحث مع الجهات الدولية لاسترجاع الأصول.
وسعت الحكومة الليبية لاسترداد الأصول المجمدة من خلال التفاوض مع الدول التي تحتفظ بهذه الأصول، وتم تشكيل عدة لجان ومحامين للقيام بهذه المهمة، بما فيها “مكتب استرداد الاموال والاصول الليبية” التابع لرئاسة الوزارة الليبية، حيث أوكلت إليه هذه المهمة مع متابعة عودة تلك الأموال وفرض رقابة مشددة على طريقة إنفاقها.
ولكن الوضع الليبي الداخلي يؤدي إلى ضعف التنسيق وفقدان الثقة الدولية، ويدعم الفساد الواسع في المؤسسات الليبية مسألة عدم الثقة، خصوصا مع عدم وجود آليات قانونية دولية فعالة لضمان استرداد الأصول المجمدة، في وقت تلعب فيه المصالح دولية دوراً في خلق صعوبات في تتبع الأصول واستردادها.
وإن تنوع الأصول المجمدة التي تشمل أموال نقدية وعقارات وأسهم وسندات، وتعدد الجهات التي تسيطر عليها، بما في ذلك الحكومات الأجنبية والمؤسسات المالية والشركات الخاصة، يجعل من مسألة تتبعها واستردادها أمراً معقداً، ويضاف إليه التشريعات والقوانين المختلفة في كل بلد يعقد عملية التعامل في هذا الموضوع.
ولكن المسألة الأكثر أهمية هو طريقة تعامل الدول التي جمدت الحسابات الليبية، حيث كشفت التحقيقات في بلجيكا على الأقل عن تفاصيل مقلقة بشأن إدارة الأصول الليبية المجمدة، وتم رفع التجميد عن جزء كبير منها دون مراعاة القواعد الأممية، ما أدى إلى فقدان مئات الملايين من الدولارات، ويوضح الرسم البياني التالي الانتهاكات التي حدثت بحقوق الأصول الليبية:
والواضح أن الانتهاكات ازدادت خلال عقد من الزمن ففي عام 2011، كانت حالات الانتهاك قليلة ولكنها ازدادت بشكل ملحوظ لتصل إلى 18 حالة في عام 2023.
وأدى ضعف آليات الرقابة الدولية في تطبيق قواعد التجميد وتزايد الفساد والتوترات السياسية إلى ضعف الالتزام بالقوانين الدولية، ومن جانب آخر كان هناك تناقص مستمر في قيمة الأصول الليبية المجمدة منذ عام 2011 حتى عام 2023، عند بداية الأزمة عام 2011تُقدر بأكثر من 200 مليار دولار أميركي، ولكن هذه القيمة تقلصت تدريجيا لتصل إلى حوالي 120 مليار دولار في عام 2023، وهو ما يوضحه الرسم البياني التالي:
هذه الصورة للإجراءات الغربية ضد ليبيا يتم إعادة تكرارها مع روسيا، ويثير هذا الوضع تساؤلات حول ضمانات حماية هذه الأصول من السرقة أو الاستخدام غير القانوني، خصوصا أن بعض دول هددت بمصادرة هذه الأصول، وإذا كانت الإجراءات ضد ليبيا تم اتخاذها داخل مجلس الأمن، فإن ما يجري بحق روسيا يتم بشكل أحادي الجانب وهو ما يجعل الأصول الروسية عرضة أكثر لعمليات النهب والاحتيال.
ولا يمكن النظر إلى قضية الأصول المجمدة خارج إطار عملية النهب المنظم الأوروبي والأمريكي للدول، فالجهود المبذولة لاسترداد هذه الأصول تبقى خاضعة للشروط السياسية لتلك الدول وليس للاحتياجات الليبية، ويساعد الفساد والانقسام السياسي الليبيمن قدرة الغرب على التحكم بهذا الملف.
ومن جانب آخر فإنه يفتح أسئلة كبرى حول النظام الاقتصادي الدولي الذي يتيح اليوم تجميد الأصول الروسية ليصبح مصيرها مجهولا ًفي ظل عدم حمايتها، فهذه الإجراءات هي نتيجة لم تضمن الاستقرار الدولي، بل ربما على العكس ساهمت في إفقار الدول، وفي زيادة التوترات على الأخص أن تجميد الأصول في كثير من الأحيان يحدث عبر عقوبات يتم فرضها خارج الأمم المتحدة، كما حدث مع روسيا، كجزء من السياسات الغربية لضمان نفوذها الدولي.
ليبيا: ضبط 3 حاويات محملة بالـ “كبتاغون” قادمة من سوريا