08 ديسمبر 2025

تشهد العلاقات الجزائرية – الفرنسية توتراً جديداً مع تحول محاكمة الصحافي الفرنسي كريستوف غليز في تيزي وزو، وإدانته بتهمة “الإشادة بالإرهاب”، إلى أزمة دبلوماسية تتجاوز حدود القضاء لمواجهة تكشف هشاشة الثقة بين البلدين، وتعيد طرح أسئلة السيادة والذاكرة من جديد.

ما يجعل هذه القضية استثنائية ليس فقط طابعها القضائي أو صداها الإعلامي، بل لأنها تمثل حضوراً مكثفاً لصراع الإرادتين السياسية والرمزية؛ بين بلدين لم تنطفئ نيران تاريخهما المشترك، فالجزائر التي تسعى إلى ترسيخ سيادتها القانونية في وجه ما تعتبره “وصاية فرنسية”، تجد في هذه القضية فرصة لإعادة تعريف علاقتها بجارتها الأوروبية على أساس الندية والاحترام المتبادل، بينما ترى باريس في سجن أحد صحافييها مؤشراً مقلقاً على تراجع هامش الحريات وتآكل جسور الثقة التي حاول الرئيس ماكرون ترميمها.

هذه الأحداث حولت محاكمة صحافي إلى مسرح مصغر لأزمة هوية سياسية وتاريخية لم تحسم بعد بين الجزائر وفرنسا.

قضية غليز: الصحافة بين التهمة والسيادة

الصحافي الفرنسي الثلاثيني كريستوف غليز، المعروف بعمله في مجلتي So Foot و Society، دخل الجزائر بتأشيرة سياحية في مايو 2024 لإنجاز تحقيق رياضي عن نادي شبيبة القبائل، أحد أبرز رموز كرة القدم الجزائرية.

إلا أن وجوده في منطقة القبائل الحساسة، واتصاله بأحد مسؤولي النادي الذي تربطه علاقة سابقة بـ”حركة الحكم الذاتي في القبائل” المصنفة “منظمة إرهابية”، شكلا أساس التهم الموجهة إليه، حيث اتهمته النيابة العامة الجزائرية بـ “التجسس”، وطالبت الحكومة الفرنسية مراراً بـ “شفافية كاملة” في الإجراءات وتقديم كل الضمانات القانونية للصحفي، وناشدت عائلته الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتدخل.

دافعت السلطات القضائية الجزائرية عن إجراءاتها، مؤكدة أن الصحفي خالف القانون باستخدام تأشيرة سياحية للقيام بعمل مهني (صحفي) دون الحصول على التصريح اللازم، وأن أنشطته تجاوزت الإطار القانون، في حين دافع المحامي الجزائري عميروش باكوري عن موكله قائلاً إن القضية “خال ملفها من أي دليل على الإرهاب”، وأن غليز “لم يفعل سوى أداء عمله الصحافي”، بينما اعتبر محاميه الفرنسي إيمانويل داود أن المحاكمة “تجري في مناخ سياسي مشحون يعكس حساسية العلاقة بين البلدين”.

غير أن النيابة الجزائرية رأت في وجود الصحافي الفرنسي “فعلاً عدائياً”، مطالبة بعقوبة تصل إلى عشر سنوات سجناً وغرامة مالية، وهو ما عدته باريس مؤشراً على “انغلاق قضائي وسياسي” في الجزائر، فيما رفضت الجزائر أي تدخل خارجي، معتبرة أن “القضاء سيّد على تراب الجمهورية”.

فرنسا “اللينة” أمام اختبار الصرامة الجزائرية

القضية أحرجت باريس التي وجدت نفسها عاجزة عن الضغط المباشر للإفراج عن أحد رعاياها، فوزارة الخارجية الفرنسية اكتفت بتصريحات دبلوماسية هادئة تؤكد “متابعة القضية عن قرب” و”أملها في حلّها وفق العدالة”، ويبدو أن ما وصفته الصحافة الفرنسية بـ”لين فرنسا” يعكس تراجع قدرتها على التأثير في الجزائر بعد أن فقدت الكثير من أوراقها السياسية والاقتصادية منذ قرار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تقليص الوجود الدبلوماسي الفرنسي واستبدال اللغة الإنجليزية بالفرنسية في بعض المؤسسات التعليمية.

منذ اعتراف باريس، في صيف 2024، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، اعتبرت الجزائر الخطوة “طعنة سياسية” في خاصرتها الدبلوماسية، وردّت بتجميد عدة اتفاقيات تعاون، ما أدى إلى دخول العلاقات في مرحلة برود غير مسبوقة.

وفي خضم هذا المناخ المشحون، جاء اعتقال الصحافي الفرنسي بمثابة حقل اختبار جديد لمدى صلابة “السيادة الجزائرية” من جهة، وقدرة فرنسا على حماية مواطنيها في الخارج من جهة أخرى، لكن التوازن ظل هشاً، ففرنسا التي تحاول إنعاش الحوار الأمني والاقتصادي مع الجزائر، لا ترغب في صدام مفتوح، بينما تستثمر الجزائر القضية لتأكيد استقلال قرارها ومناعتها من “الابتزاز الإعلامي”.

قضية بوعقبة.. المرآة الداخلية للأزمة

بموازاة المحاكمة المثيرة للصحافي الفرنسي، شهدت الجزائر محاكمة الصحافي المخضرم سعد بوعقبة (79 عاماً) بتهمة “إهانة رموز الثورة”، بعد تصريحات تناولت بالتحليل تاريخ قادة التحرير، ولا سيما الرئيس الراحل أحمد بن بلة، وصدر حكم بحبسه ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، وغرامة مالية.

القضيتان وإن بدتا منفصلتين تتقاطعان عند محور واحد حرية الصحافة في الجزائر، بين الخطوط الحمراء الوطنية، وضغط الرأي العام الدولي، فبينما تدافع السلطات عن ضرورة حماية “رموز الثورة ومكتسبات الاستقلال” في وجه ما تعتبره “تشويهاً للتاريخ”، ترى منظمات مثل مراسلون بلا حدود أن الجزائر تنزلق نحو “تقييد متزايد للصحافة تحت مبررات السيادة”.

وهنا تتجلى المفارقة؛ ففي الوقت الذي تحاكم فيه الجزائر صحافياً فرنسياً بتهمة “الإرهاب الإعلامي”، فإنها تحاكم صحافياً جزائرياً بتهمة “المساس بالرموز الوطنية”، وكأنها ترسل رسالة مزدوجة مفادها أن حرية التعبير لا يمكن أن تتجاوز ثوابت الدولة، سواء جاء الخرق من الداخل أو من الخارج.

تسييس القضاء أم سيادة الدولة؟

يُتهم القضاء الجزائري، في الخطاب الفرنسي وبعض المنظمات الحقوقية، بأنه أداة في الصراع السياسي بين البلدين، لكن الجزائر ترد بأن فرنسا “تمارس ازدواجية المعايير”، إذ تتجاهل قضايا جزائريين موقوفين على أراضيها، مثل قضية الموظف القنصلي الجزائري المتهم في باريس بـ”اختطاف اليوتيوبر المعارض أمير بوخرص”، في حين تصعد دفاعها عن صحافي فرنسي “خالف قوانين الإقامة والعمل”.

وبحسب تسريبات من مصادر جزائرية رسمية، فإن الجزائر “تربط مصير قضية غليز بتطورات الملف القنصلي في باريس”، ما يعني أن العدالة، وإن كانت مظهرا ًقانونياً، أضحت جزءاً من معادلة دبلوماسية أوسع.
عملياً فإن القضية تجاوزت بعدها القضائي لتصبح ورقة ضغط متبادلة بين بلدين يعرفان جيداً كيف يوظفان الرمزية السياسية في ملفات العدالة والإعلام.

القبائل.. الجرح التاريخي المفتوح

منطقة القبائل، التي وقعت فيها الحادثة، ليست مجرد فضاء جغرافي بل عقدة تاريخية في الوعي السياسي الجزائري، فمنها خرجت أهم حركات المعارضة والمطالب الثقافية، ومنها أيضاً تطورت حركة “الماك” الانفصالية بقيادة فرحات مهني المقيم في فرنسا التي صنفتها الجزائر منظمة إرهابية عام 2021.

وتتهم الجزائر باريس بغض الطرف عن نشاطات هذه الحركة فوق أراضيها، وتوفير مظلة حماية لرموزها الإعلاميين، وهو ما تعتبره “تدخلاً مباشراً في شؤونها الداخلية”.

ويأتي في هذا السياق موقف جبهة القوى الاشتراكية، أقدم الأحزاب في منطقة القبائل، الرافض لـ”الانحرافات الانفصالية”، ليؤكد أن الانقسام الداخلي لا يقل خطورة عن التجاذب الخارجي.

إنّ ذكرى حرب التحرير لا تزال حيّة في المخيال الجمعي الجزائري، وكل ما يصدر من باريس، سواء تصريح سياسي أو تغطية إعلامية، يُقرأ من زاوية الإرث الاستعماري، وأي قضية تمس منطقة القبائل أو الصحافة الفرنسية في الجزائر، تأخذ أبعاداً سيادية وتاريخية تتجاوز الوقائع المباشرة.

رهانات السلطة والشرعية في الجزائر

من منظور داخلي، تسعى السلطة الجزائرية إلى توظيف مثل هذه الملفات لتأكيد تماسك الدولة وهيبتها في وجه “الضغوط الغربية”، فبعد سلسلة من القوانين المقيدة للجمعيات ووسائل الإعلام، بات القضاء أحد أدوات “إعادة ضبط المجال العام”، كما يسميه بعض المراقبين.

قضية غليز، في هذا الإطار، مثالاً على خطاب السيادة الذي يعتمده النظام الجزائري لتوحيد الجبهة الوطنية حول مفهوم “الاستقلال الكامل”، في مواجهة ما يراه “وصاية إعلامية فرنسية” متوارثة، وفي المقابل، يرى النقاد أن مثل هذه القضايا تسيء لصورة الجزائر في الخارج، وتغذي المخاوف من عودة “رقابة ما قبل الانفتاح”.

فرنسا بين الذاكرة والمصلحة

أما فرنسا، فتمرّ بعلاقة معقدة مع ماضيها الاستعماري، وتحاول موازنة خطاب الاعتذار الأخلاقي مع مصالحها الجيوسياسية في المنطقة، فبعد أن فشلت مبادرات الرئيس إيمانويل ماكرون في تحقيق “مصالحة الذاكرة” بسبب رفض الجزائر لما اعتبرته “لغة فوقية”، تجد باريس نفسها اليوم أمام حكومة جزائرية أكثر تشدداً في الملفات السيادية، وأقل استعداداً لتنازلات رمزية.

في المقابل، تدرك باريس أن خسارة الجزائر تعني عملياً خسارة بوابتها إلى إفريقيا، وأن استمرار التوتر سيقوّض التعاون في ملفات حيوية كالهجرة والطاقة ومكافحة الإرهاب في الساحل، ويدها مقيدة أيضاً، فالرأي العام الفرنسي نفسه بات أكثر حساسية تجاه “قضايا الحريات”، وأي تنازل في ملف غليز يُقرأ كخضوع لنظام استبدادي.

الخسائر المتبادلة.. والحدود الممكنة للتصعيد

لا شك أن استمرار التصعيد سيكلف الطرفين خسائر متزايدة، فالجزائر التي تواجه أزمة اقتصادية خانقة بسبب تراجع عائدات الغاز وتوتر المناخ الاستثماري، بحاجة إلى شركاء أوروبيين مستقرين، وفرنسا في مقدمتهم.

أما باريس، التي تخسر نفوذها في إفريقيا تباعاً فلا يمكنها تحمل قطيعة مع الجزائر، ثاني أكبر شريك تجاري لها في القارة، ومع ذلك، يبدو أن التوتر المدروس بات سمة العلاقة بين البلدين، فلا قطيعة نهائية، ولا مصالحة حقيقية، فالبلدان يحتاجان إلى بعضهما بقدر ما يتوجسان من بعضهما.

الجزائر تريد فرنسا التي تعترف باستقلالها، لا فرنسا التي تملي عليها معاييرها، وباريس تريد الجزائر المتعاونة في ملفات الأمن والهجرة، لا التي تحاضرها في أخلاق الاستعمار، ووفق تناقض سياسات البلدين تتأرجح قضايا الأفراد، مثل غليز وبوعقبة، لتتحول إلى رموز في معركة هوية مستمرة.

صحافي في مرمى التاريخ

قضية كريستوف غليز، في جوهرها، ليست سوى فصل جديد من رواية طويلة عنوانها “الذاكرة والسيادة”، فهي تذكير بأن الصحافة لا تُقرأ كمهنة للبحث عن الحقيقة فحسب، بل كفعل سياسي يُخضع صاحبه لمعايير الولاء والانتماء.

فرنسا، رغم لهجتها الهادئة، تبدو اليوم عاجزة عن حماية رموزها الإعلامية في دول لم تعد تخشاها، والجزائر، في المقابل، تثبت أنها قادرة على فرض منطقها السيادي، لكنها تخاطر بسمعتها كدولة تسعى إلى الانفتاح، وتتحول محاكمة صحافي إلى اختبار دبلوماسي عسير، يذكر الطرفين بأن التاريخ لم ينتهِ بعد، وأن الاستعمار، وإن رحل عسكرياً، ما زال يسكن لغة السياسة والعدالة والإعلام بين الجزائر وفرنسا.

بقلم: مازن بلال

 

رئيس حكومة النيجر في زيارة رسمية إلى الجزائر لتعزيز التعاون الثنائي

اقرأ المزيد