تثير سياسات الولايات المتحدة تجاه ليبيا تساؤلات حول التزامها بالاستقرار ودعم العملية السياسية، فمنذ اغتيال السفير ج. كريستوفر ستيفنز في بنغازي عام 2012، لا تملك سفيرا لها، بل مبعوث خاص، وقائم بالأعمال وملحق عسكري.
وتشكل العلاقة بين السياسة الأمريكية والأزمة الليبية نموذجا خاصا في النظر إلى الأزمات على أساس أمني؛ يبتعد بشكل واضح عن العمل الجاد لتأسيس واقع من المصالح المشتركة، فطبيعة التعامل الدبلوماسي لواشنطن مع ليبيا، ورغم زيادة الاهتمام بعد مرحلة من التجاهل خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، لكنها تبقها ضمن اتجاه واحد يهتم أساسا بالقوى المتواجدة في ليبيا وليس بكونها دولة تملك أزمة سياسية حادة.
سياق مليء بالتقلبات
وتملك الولايات المتحدة وليبيا علاقات مضطربة على المستوى التاريخي، فبين البلدين تشابكات بفعل أحداث مثل الغارات الجوية التي شنت عام 1986 أثناء إدارة ريغان، وتدخل حلف شمال الأطلسي عام 2011 الذي ساهم في سقوط معمر القذافي، إضافة للحصار الاقتصادي بعد قضية لوكربي، وأخيرا وكان الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي في الحادي عشر من سبتمبر 2012، وأسفر عن مقتل السفير ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين، وشكلت هذه الحادثة تدهورا في العلاقات، حيث سحبت الولايات المتحدة معظم بعثتها الدبلوماسية، وبشكل يعكس المخاوف بشأن الأمن والافتقار إلى الحكم المستقر في ليبيا.
عمليا، ومنذ وفاة السفير ستيفنز لم تعين الولايات المتحدة سفيراً معتمدا في ليبيا، بل اعتمدت بدلاً من ذلك على مسؤولين مؤقتين لإدارة بعثتها الدبلوماسية.
وكان آخر إخفاق لواشنطن في تطوير تمثيلها الدبلوماسي طلب جنيفر جافيتو، المرشحة كسفيرة للولايات المتحدة في ليبيا، من الرئيس جو بايدن سحب ترشيحها، وجاء قرارها بعد 32 شهرا من الانتظار قبل أن يتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا بشأن ترشيحها، ما يعكس ركودا بيروقراطيا في السياسة الأمريكية تجاه ليبيا.
تداعيات قرار جافيتو
يطرح طلب جافيتو سحب ترشيحها صورة قاتمة للسياسة الأمريكية تجاه ليبيا، فالوقت الذي استغرقه مجلس الشيوخ للموافقة على هذا الأمر لا يمكن تفسيره إلا بعدم الاكتراث والإهمال في التعامل مع هذا الموضوع.
وهناك تحديات داخل النظام السياسي الأمريكي تمنع المشاركة الدبلوماسية الفعالة، وقراراها بسحب الترشح الذي أرجعته إلى “الإرهاق الشخصي والمهني”، ويسلط الضوء أيضا على القضية الأعمق المتمثلة في فشل مجلس الشيوخ الأمريكي معالجة الترشيحات، التي لا تطال جافيتو فقط بل 26 مرشحا دبلوماسيا أيضا.
والانعكاس الأساسي في ليبيا لغياب سفير يراه البعض في الفراغ الذي خلفه هذا الأمر، وهو ما دفع قوى أخرى للتعامل بشكل مختلف مع الأزمة الليبية، وجعل من الدبلوماسية الأمريكية محصورة بالقنوات السياسية مع بعض الأطراف، بينما تبقى المساحة مفتوحة داخل الأزمة الليبية بشكل عام.
وعلى الرغم من تنويه جافيتو المتكرر إلى تزايد النفوذ لروسيا والصين بسبب الفراغ الدبلوماسي الأميركي، لكن المسألة تتجاوز هذا الموضوع حيث يبدو أن سياسة البيت الأبيض لديها اهتمام محدد في الموضوع الليبي، وتريد التركيز فقط على ضمان مصالحها عبر حلفاء محددين لها، ولا تحتاج إلى الانخراط أكثر بمسألة تبدو بالنسبة لها مستندة لقوى استخباراتها وليس للتعامل الدبلوماسي داخل الصراع الأكبر في القارة الإفريقية.
العناصر الأمريكية في ليبيا
وتتعامل الولايات المتحدة مع الأزمة الليبية وفق عناصر محددة وأدوار لا ترتبط في كثير من الأحيان بعمق الأزمة الليبية؛ إنما بمصالح خاصة لها على المستوى الدولي، وتتضح هذه العناصر بالنقاط التالية:
- دور ليبيا في مكافحة الإرهاب في شمال إفريقيا، فمنذ صعود الجماعات المتطرفة في المنطقة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وصولا إلى تحويل ليبيا إلى نقطة محورية للعمليات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، رسم البنتاغون ملامح الاهتمام الأمريكي.
وأن الافتقار إلى الوجود الدبلوماسي يبدو كاستراتيجية أمريكية لإتاحة فرصة مرنة للعمليات الاستخباراتية في ليبيا والشمال الإفريقي.
- تحافظ الولايات المتحدة على وجودها عبر مبعوثها الخاص والملحق العسكري، وهو تمثيل لا يحمل نفس الثقل الدبلوماسي الذي يحمله السفير، لكن المبعوث الخاص، ريتشارد نورلاند، والملحق العسكري يشكلان مرجعية خاصة داخل ليبيا بالنسبة للعملية السياسية، فبينما يشكل وجود سفير ثقلا سياسيا، فإن الولايات المتحدة تفضل التعامل مع مستوى مختلف لا يحملها تبعات سياسية لأي اضطراب محتمل في ليبيا.
- إن تعيين مسؤولين دبلوماسيين مؤقتين يعكس سياسة أميركية تفاعلية وليس استباقية في ليبيا، ويشير إلى افتقار في التخطيط الاستراتيجي الطويل الأجل، لكنه في المقابل ينقل أولويات الإدارة الأمريكية في الموضوع الليبي.
وكما تدرك واشنطن أن التأثير الفعال في الأزمة ربما لا ينتهي باستقرار مصالحها، فقضايا مكافحة الإرهاب ودعم الاستقرار في دول إفريقية مجاورة لليبيا انتهت بأزمة دبلوماسية، ويبدو أن إبقاء التواصل الأمني والحفاظ على قنوات خاصة مع بعض الأطراف هو الأهم بالنسبة لسياستها الحالية.
بالتأكيد فإن تأخير تعيين سفير أمريكي في ليبيا يوضخ خللا خاصا في السياسة الأمريكية، فقضية جافيتو هي واحدة من بين العديد من القضايا التي أدت فيها الانقسامات السياسية في مجلس الشيوخ إلى توقف العمليات الدبلوماسية الأساسية.
وأن عجز مجلس الشيوخ عن التصرف بسرعة فيما يتصل بالترشيحات الدبلوماسية يعكس قضايا أوسع نطاقاً داخل النظام السياسي الأميركي، حيث تعمل التوجهات الحزبية على عرقلة القرارات الأساسية في مجال السياسة الخارجية، وتمتد آثار هذا الركود إلى ما هو أبعد من ليبيا، فتؤثر على الجهود الدبلوماسية العالمية التي تبذلها الولايات المتحدة وتضعف موقفها في الشؤون الدولية.
ويرمز غياب سفير أميركي في ليبيا منذ اغتيال السفير ستيفنز إلى انفصال أوسع نطاقاً عن القضايا السياسية في ليبيا، في حين يشير وجود مبعوث خاص وملحق عسكري إلى مستوى معين من الاهتمام، مرتبط أساسا بحدود خاصة لمصالح واشنطن في ليبيا.
وكما يبدو أن واشنطن مهتمة أكثر بالتأثير المباشر على بعض أطراف الصراع، دون أن يترك هذا التأثير أي مسؤولية من قبلها تجاه معاناة الليبيين، فوجود سفير هو التزام سياسي بالدرجة الأولى، وجدية تجاه الدولة الليبية، بينما تبقى القنوات الأمريكية الأخرى حالة من الرغبة في التعامل مع مسائل محددة والبقاء في الظل لتجنب أي عواقب.
بقلم مازن بلال
طائرة مراقبة أمريكية تنفذ مهمة استطلاع بمقربة من السواحل الليبية