لم يكن مقتل أحمد الدباشي، المعروف بلقب “العمو”، حدثاً أمنياً عابراً في غرب ليبيا، بل نقطة انعطاف في سردية الفوضى التي تمسك بخناق البلاد منذ سقوط نظام القذافي عام 2011.
الرجل الذي قُتل في اشتباكات صبراتة يوم 12 ديسمبر 2025، لم يكن مجرد مهرب للبشر أو زعيم ميليشيا محلية، بل أحد أبرز الرموز التي اختزلت تحوّل ليبيا من دولة إلى “مسرح لعصابات النفوذ”، حيث تتشابك المصالح بين الميليشيات، ورجال السياسة، والاستخبارات الأجنبية، في شبكة كثيفة من المال والسلاح والدم.
من المهرب إلى “الرجل الذي يملك البحر”
ولد أحمد عمر الفيتوري الدباشي عام 1990 في مدينة صبراتة، المدينة الساحلية التي تحولت خلال العقد الماضي إلى مركز رئيسي لتهريب المهاجرين نحو أوروبا، وانتماؤه إلى قبيلة ذات نفوذ مكنه من بناء قاعدة اجتماعية محلية، سرعان ما تحولت إلى ذراع مسلحة في فوضى ما بعد الثورة.
منذ عام 2015، صار اسم “العمو” مرادفاً لواحدة من أكثر شبكات الاتجار بالبشر تعقيداً في شمال إفريقيا، وبحسب تقرير مجلس الأمن الدولي لعام 2018، كان الرجل يقود ميليشيا تسيطر على الساحل الغربي وتتحكم بمسارات تهريب المهاجرين، مستخدماً العنف الممنهج والاحتجاز القسري، والقتل أحياناً، كوسيلة للردع والسيطرة.
كانت صبراتة، المدينة التاريخية التي تضم آثاراً رومانية على المتوسط، تحوّلت في عهده إلى “ميناء بشري” يعبر منه آلاف الأفارقة سنوياً، في قوارب الموت المتجهة إلى أوروبا، وفي الظلال المائية للبحر، كان “العمو” يملك كل شيء؛ الشاطئ والزوارق والسماسرة والسجون التي يُحتجز فيها المهاجرون حتى تُدفع فديتهم أو يُسمح لهم بالرحيل.

التواطؤ الدولي: حين تصافح روما يد المهرّب
الجانب الأكثر غرابة في قصة “العمو” لم يكن عنفه أو ثراؤه الفاحش، بل علاقاته السياسية والاستخباراتية التي تجاوزت حدود ليبيا، ففي عام 2017 نشرت وكالة فرانس برس تقريراً كشف أن السلطات الإيطالية دخلت في “صفقة غير معلنة“ مع الدباشي، تقضي بأن يتوقف عن تهريب المهاجرين مقابل تمويل شهري قدر بثلاثة ملايين يورو.
كانت روما، التي واجهت حينها موجة لجوء غير مسبوقة، تبحث عن “رجل قادر على ايقاف الهجرة من البحر”، ووجدت ضالتها في مهربٍ يتحكم فعلياً في السواحل الغربية، فبدل أن تُقدّمه للعدالة، سلحته وأغدقت عليه المال، ثم روجت له كـ”حارس محلي” ضد الهجرة غير النظامية.
لكنّ الصفقة انقلبت سريعاً إلى لعنة. فبحسب شهادات محلية وتقارير حقوقية، استغل الدباشي التمويل الإيطالي لتعزيز ميليشياته، وأطلق النار على مهاجرين حاولوا الإبحار دون إذنه، فيما غرقت عشرات القوارب “رسمياً” تحت إشرافه، وتحول الرجل من مهرب إلى قاتل مأجور باسم مكافحة الهجرة.
الغطاء السياسي: الدولة التي تتغذى من الميليشيا
لم يكن “العمو” يخفي نفسه، ولم يكن مطارداً بالمعنى الحقيقي، ظلّ يتنقل في صبراتة وطرابلس علناً، تحت حماية ترتيبات أمنية غير رسمية مع أطراف في حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، ففي ليبيا ما بعد 2011، لم تعد الدولة كياناً يحتكر العنف، بل تعاقداً هشا بين الميليشيات التي تتقاسم الجغرافيا والنفوذ، ولم يكن “العمو” استثناء، بل قاعدة.
أمثاله من عبد الغني الككلي “غنيوة” في طرابلس، إلى عبد الرحمن ميلاد “البيدجا” في الزاوية، هم الأذرع التي بنت عليها الحكومات المتعاقبة شرعيتها الأمنية، قبل أن تنقلب عليهم الظروف وتبتلعهم لعبة التصفيات.
التاريخ يعيد نفسه؛ فبعد أن قتل “غنيوة” في مايو 2025 و”البيدجا” في سبتمبر 2024، جاء الدور على “العمو”، فالاغتيالات المتتابعة تكشف ليس انتصار الدولة، بل تفككها، فكل اغتيال يفتح فراغاً جديداً، وتتسابق ميليشيات أخرى لملئه.

العملية: رصاصة في قلب الصراع
صبيحة 12 ديسمبر 2025، اندلعت اشتباكات عنيفة في أحياء صبراتة الغربية — طريق المستشفى، التنارة، وجزيرة النخلات، ووفقاً لجهاز مكافحة التهديدات الأمنية، بدأت المعركة بهجوم شنته مجموعة تابعة لـ”العمو” على إحدى بواباته، أصيب خلاله ستة من عناصر الجهاز، ورداً على ذلك، نفذت وحدات تابعة للجهاز مداهمة لوكر الدباشي، انتهت بمقتله واعتقال شقيقه صالح.
رواية الطرف الحكومي لم تُقابل بتفنيد من معسكر الدباشي، لكن مصادر محلية تحدثت عن مقتل زوجته داخل المنزل خلال الاشتباكات، بعد أن كانت مفقودة منذ أسابيع، ما زاد الغموض حول ملابسات الحادثة.
البيان الرسمي تحدث عن “عملية أمنية قانونية”، لكن طبيعة الاشتباكات وسياقها يوحيان بأنها تصفية حسابات ميدانية أكثر من كونها تنفيذاً لقرار قضائي، فـ”العمو” تلقى أوامر قبض عدة في السنوات الماضية دون تنفيذ، ولم يكن سقوطه هذه المرة نتيجة تخطيط استخباراتي، بل تصادم مصالح بين مراكز القوى في الغرب الليبي.
ما وراء الرصاص: الصراع على اقتصاد التهريب
مقتل الدباشي يعكس سباقاً على النفوذ المالي بين ميليشيات فقدت أي شرعية ثورية أو وطنية، وصارت تتصارع على العوائد الاقتصادية للتهريب، ففي الغرب الليبي لم يعد التهريب مجرد نشاط جانبي، بل ركيزة اقتصادية تمول الميليشيات وتغذي الاقتصاد الموازي، وكل زعيم ميليشيا يسقط يُغير توزيع الحصص على الخريطة.
اغتيال “العمو” لم يُنهِ شبكة الاتجار بالبشر، بل حررها من مركزية الرجل الواحد، فالمسارات البديلة نحو الشواطئ لم تُغلق، بل انتقلت إلى أيدي مجموعاتٍ أصغر وأكثر مرونة، في ظل غياب جهاز أمني موحد قادر على ضبط الحدود أو تفكيك منظومة التمويل.

بين الداخل والخارج: ليبيا كمختبرٍ للأمن الأوروبي
اغتيال “العمو” يعيد إلى الواجهة سؤالا ًأكبر حول من يتحكم فعلاً في أمن الساحل الليبي؟ فالسياسات الأوروبية، خصوصاً الإيطالية، ربطت بين أمن المتوسط و”شراء” خدمات أمراء الحرب المحليين، ما جعل ليبيا حقل تجارب لتصدير الحدود إلى ما وراء البحر.
كان الدباشي جزءاً من استراتيجية أوروبية أوسع لتوكيل مهام الردع إلى “شركاء غير رسميين”، أي الميليشيات، وعندما تآكلت شرعيته محليا ًودولياً، أصبح عبئاً يجب التخلص منه.
تبدو الرواية الرسمية عن مقتله التي بينت أنها “عملية ضد عصابة خارجة عن القانون” منسجمة مع هذا التحوّل في المزاج الأوروبي والليبي على السواء الذي يتلخص بالاستغناء عن الحلفاء القدامى باسم الأمن.
رمزية السقوط: نهاية عصر الميليشيا المؤسِّسة
من زاوية رمزية، يمثل سقوط “العمو” نهاية جيل من قادة الميليشيات الذين نشأوا من رحم ثورة فبراير، ثم تحولوا إلى “نخب أمنية موازية”، وهم قدموا أنفسهم في البداية كـ”ثوار”، ثم صاروا حراساً لمصالح خارجية، وأمراء لاقتصاد الحرب.
إنها نهاية جيل صعد على جثة الدولة، وهو يسقط واحداً تلو الآخر تحت ركامها، لكنّ هذا السقوط لا يعني بالضرورة أن الدولة تستعيد زمام المبادرة، فـ”الانتصارات الأمنية” في ليبيا غالباً ما تكون تبادلا ًللمواقع داخل الفوضى نفسها.
من قتل “العمو” سيُصبح هدفاً غداً، في لعبة لا رابح فيها سوى الفساد والعنف.

الوجه الإنساني المنسي: رهف، والبحر، والمهاجرون
خلف الضجيج الأمني والسياسي، تختفي القصص التي تُظهر فداحة ما صنعه “العمو” وشركاؤه، ففي 2024، هزت ليبيا مقاطع فيديو تظهر فتاة تُدعى رهف الكرشودي، مكبلة بالسلاسل وتتعرض للتعذيب على يد رجالٍ يُقال إنهم من ميليشيا الدباشي، وبعد أسابيع عُثر عليها مقتولة.
هذه الحادثة التي لم يُحاسب أحد عليها حتى اليوم تختصر المأساة الأخلاقية التي سمحت لأمثال “العمو” بالبقاء، من خلال تواطؤ الصمت، وفساد السلطة، وغياب العدالة.
أما آلاف المهاجرين الأفارقة الذين مرّوا عبر سجون صبراتة، فظلوا مجرد أرقام في تقارير الأمم المتحدة، بين قتيل في الصحراء، وغريق في المتوسط، وناجٍ يحمل جرح العبودية، فعاشوا جميعا ًتحت نظام لا يعترف بالإنسان، بل بتكلفته السوقية.
ما بعد “العمو”: بين الاضطراب والتطبيع
اليوم، وبعد طي صفحة الدباشي، لا تبدو صبراتة أكثر أماناً، فالميليشيات التي تقاسمت إرثه تتصارع على ما تبقّى من موارد، فيما الحكومة المركزية في طرابلس مشغولة بتثبيت شرعيتها، وتحذر تقارير استخباراتية أوروبية من أن “تصفية قادة الميليشيات في الغرب الليبي تُحدث فراغاً يهدد التوازنات الهشة”، وهو ما يعني أن موت “العمو” بداية دورة عنف جديدة، لا نهايتها.
لا يمكن النظر إلى اغتيال “العمو” بوصفه انتصاراً للدولة، بل باعتباره عرضاً من أعراض مرض أعمق؛ دولة فقدت احتكار العنف، وتحولت فيها الميليشيا إلى مؤسسة من مؤسسات الحكم.
سقط الدباشي، لكن النظام الذي أنجبه نظام اقتصاد الحرب، والتحالفات المصلحية، والتواطؤ الدولي ما زال قائماً.
انتهت أسطورة العمو” كفرد، لكنّ العشرات من أمثاله يولدون كل يومٍ في الظلال ذاتها التي صنعته؛ فوضى السلاح، وانعدام العدالة، وصمت العالم أمام تجارة بالبشر تُدار باسم “الأمن”.
بقلم نضال الخضري
وفاة 14 مهاجراً غير شرعياً بسبب العطش على الحدود الليبية الجزائرية
