لم يكن توقيف وزير التربية والتعليم المكلف في حكومة الوحدة الوطنية الليبية منتهية الولاية، علي العابد، مفاجئاً للشارع الليبي، بل تتويجاً متوقعاً لمسار من الفساد الذي يحوِل حكومة عبد الحميد الدبيبة إلى كيان مثقل بالأزمات والاتهامات.
العابد الذي تولى في الوقت نفسه ثلاث حقائب وزارية، التعليم والعمل والخدمة المدنية، أُوقف رهن التحقيق في قضية طباعة الكتب المدرسية، وهي القضية ذاتها التي أطاحت قبل سبعة أشهر بسلفه موسى المقريف، المحكوم بالسجن ثلاث سنوات ونصف على خلفية تقصير مماثل، ما يجعل هذه الواقعة الثانية في قطاع واحد خلال عام فقط.
الملف ليس مجرد حادث إداري، بل مرآة لبنية حكم مأزومة تعيد إنتاج الفساد كآلية يومية، أكثر منه انحرافاً استثنائياً في أداء الأفراد.

فساد مكرور… وبنية متكررة للفشل
منذ عام 2021، لم يتوقف ديوان المحاسبة الليبي وهيئة الرقابة الإدارية عن رصد مخالفات جسيمة في العقود الحكومية، تتراوح بين تضخيم النفقات، وتضارب المصالح، والصفقات المباشرة دون مناقصات، ما جعل ليبيا تتراجع إلى مراتب دنيا في مؤشرات الشفافية الدولية.
وملف الكتاب المدرسي يختصر مأساة الإدارة الليبية الحديثة، فالأزمة تتكرر كل عام، وتُواجَه بالوعود ذاتها، وتنتهي بالكارثة تأخُّر العام الدراسي، وضياع المال العام، وحرمان أكثر من 2.5 مليون طالب من حقهم في التعليم في موعده.
تُشير بيانات النيابة العامة إلى أن العابد منح عقداً لطباعة 15 مليون كتاب مدرسي لشركة حديثة النشأة تُدعى البشير للطباعة والنشر، وبقيمة بلغت 129 مليون دينار ليبي دون مناقصة رسمية، وباستثناء خاص من مصرف ليبيا المركزي، قبل أن يتراجع الأخير ويوقف تعاملات الشركة، والنتيجة تأخر العام الدراسي وكتب غير مطبوعة، وغضب شعبي متزايد.
لكن خلف الأرقام تبرز دلالات أعمق من شبكات مصالح متداخلة، وتوظيف سياسي للمال العام، واستغلال فاضح لغياب الرقابة البرلمانية الفاعلة.

وزير بثلاث حقائب… ودولة بلا كفاءات
اعتقال العابد كشف عن أزمة أعمق من مجرد “تقصير في الطباعة”، حيث ظهرت مشكلة الكفاءات والإدارة في حكومة الدبيبة التي فقدت أكثر من نصف وزرائها بين إقالات وتحقيقات واستقالات، وتحوّلت إلى ما يشبه “هيكلاً إدارياً فارغاً” يملؤه رئيسها بتكليفات مؤقتة، حيث يجمع الوزير الواحد أكثر من حقيبة، في سابقة تعكس ندرة الراغبين في تولي المناصب داخل حكومة فقدت شرعيتها الشعبية والسياسية.
عملياً فإن وجود وزير واحد يشغل أكثر من منصب لا يدل على الثقة، إنما على تآكل جهاز الدولة وغياب وانعدام الكفاءات، فهذه الحالة تمثل خللاً هيكلياً في توزيع السلطة داخل الحكومة، يجعلها تعمل برئيسها فقط.
في نظر الشارع الليبي العابد لم يكن إلا رمزاً لحكومة “التزوير” كما وصفها الصحفي الليبي محمد قشوط، الذي كشف عن شبهات تزوير في الشهادات الجامعية التي قدمها الوزير لتولي المنصب، كما أعلنت نقابة المعلمين امتلاكها أدلة رسمية من كلية العلوم التقنية في سبها تثبت أن شهادة العابد “مزورة بالكامل”، إضافة لشهادة أخرى غير صادرة عن الجامعة الأمريكية في القاهرة، ما يضيف إلى الوزير الموقوف تهمة جديدة في تزوير مستندات رسمية.
ثقافة الإفلات من العقاب
ما يجعل هذه القضايا أكثر خطورة ليس فقط حجم الفساد المالي، بل الثقافة السياسية التي تبرّره وتحتويه، ففي أكتوبر الماضي تداولت وسائل الإعلام مقاطع تظهر الوزير العابد وهو يوجه إساءات علنية للمعلمين، دون أن يواجه أي إجراء إداري، ما يعكس طبيعة السلطة داخل حكومة الدبيبة، حيث الغطرسة الرسمية امتداد طبيعي لغياب المساءلة.
وتشير الوقائع إلى أن رئيس الحكومة نفسه يحتفظ منذ 2021 بمنصب وزير الدفاع، بذريعة “حساسية الملف الأمني”، ما يكرّس مركزية مفرطة جعلت مؤسسات الدولة تعمل بنظام “التسيير الذاتي” دون إشراف فعلي أو محاسبة، ففساد العابد ليس شذوذاً عن القاعدة، بل جزء من ثقافة حكم ترى في الدولة غنيمة لا مؤسسة.

النيابة العامة… وميلاد سلطة مضادة؟
التحركات القضائية الأخيرة تمثل تحوّلاً مهماً في ميزان القوى داخل ليبيا, فمنذ أشهر، يسعى النائب العام الصديق الصور إلى ترسيخ استقلال النيابة وفرض هيبة القانون، وذلك بعد سنوات من الخضوع للتوازنات السياسية، وباتت النيابة اليوم في نظر الرأي العام الجهة الوحيدة التي تحظى بقدر من الثقة الشعبية، بعدما فشلت الأجهزة التنفيذية والتشريعية في مكافحة الفساد.
النائبة في مجلس النواب عائشة الطبلقي وصفت قرار الحبس بأنه “إجراء سليم يحقق العدالة”، مؤكدة أن “الفساد في طباعة الكتب المدرسية مزمن ومتجذر، ويجب أن يُقتلع من الجذور”، كما دعا النائب أكرم خليفة إلى فتح “تحقيق شامل” في ملف التعليم، ووصف الأزمة بأنها “انعكاس مباشر لفسادٍ ينخر جسد الدولة”، وهذه التصريحات تعكس إدراكاً متزايداً بأن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من السياسة بل من العدالة، وأن القضاء رغم الضغوط بدأ يفرض نفسه كفاعل جديد في المشهد الليبي، ويوازن بين سلطة المال وسلطة السلاح.
حكومة الدبيبة: وحدة وطنية أم وحدة على الغياب؟
تشير البيانات الرسمية إلى أن نحو18 وزيراً من أصل 34 في حكومة الدبيبة إما أُقيلوا أو أُوقفوا أو استقالوا، ما يجعلها “الحكومة النصف حاضرة”، وفي الشارع الليبي، باتت النكات عن “حكومة الفراغ الوطني” أكثر رواجاً من بيانات الحكومة نفسها، في سخرية مريرة تعبّر عن تآكل الثقة العامة في مؤسسات الدولة.
لا يقتصر هذا التآكل على الداخل، فالمجتمع الدولي، رغم علمه بحجم الانهيار الإداري، ما زال يعترف بحكومة الدبيبة، في موقف يرى فيه الليبيون ازدواجية مريبة بين شعارات “دعم الديمقراطية” وممارسة “دعم الفساد المستقر”.

الكتاب المدرسي… من أداة تعليم إلى رمز وطني للأزمة
في المجتمعات المستقرة، يمثل الكتاب المدرسي بداية الطريق نحو بناء الإنسان، أما في ليبيا فأصبح رمزاً لانهيار المنظومة التعليمية والسياسية، فالطفل الذي يبدأ عامه بلا كتاب، هو ابن دولة بلا تخطيط، ومواطن في وطن بلا إدارة.
حين يعجز نظام بأكمله عن توفير كتاب لطفل، فهذه ليست مجرد قضية فساد، بل إعلان رسمي عن سقوط الدولة، فأزمة الكتاب المدرسي تحوّلت إلى اختبار وطني؛ فهل يمكن لليبيا أن تستعيد مفهوم الدولة بعد أن تحوّل الفساد إلى نظام حياة؟ وهل تستطيع مؤسساتها الوليدة فرض القانون في وجه مسؤولين نافذين؟
الإجابة ما تزال معلقة، لكن المؤشرات القضائية الأخيرة توحي بأن مرحلة جديدة ربما تبدأ إذا استطاع القضاء أن يحافظ على استقلاله بعيداً عن ضغوط الدبيبة وحلفائه.
لحظة كشف للشرعية المنهكة
اعتقال وزير التعليم ليس حدثاً عابراً، بل لحظة كشف سياسي وأخلاقي عن هشاشة حكومة فقدت نصف أعضائها، وشرعية تستند إلى اعتراف خارجي لا إلى ثقة داخلية، ويبين أيضاً كيف تحوّل الفساد من جريمة إلى إدارة، والمساءلة من واجب إلى استثناء.
في المقابل يكشف عن بذور مقاومة مؤسساتية بدأت تنمو داخل جسد الدولة، فظهرت نيابة جريئة، ومجتمع مدني يرفع الصوت، وبرلمان وإن كان منقسماً، إلا أنه بدأ يستشعر الخطر الوجودي لانهيار الدولة.
ربما لا يُسقط اعتقال وزير حكومة الدبيبة النظام بأكمله، لكنه يهزّ أسسه الرمزية، ويثبت أن زمن الإفلات من العقاب يضيق، وأن حكومة الدبيبة” لم تعد موحدة إلا في الأزمات، فما يجري في طرابلس اليوم ليس مجرد “حبس وزير”، بل محاكمة سياسية لحقبة كاملة من الإدارة بالفساد والسلطة بالوراثة.
بقلم نضال الخضري
ليبيا تستعد لاستضافة مجلس وزراء البيئة الأفارقة في 2025
