قدم اعتقال أسامة نجم، رئيس الشرطة القضائية في ليبيا وشخصية رئيسية مرتبطة بسجن معيتيقة، وإطلاق سراحه لاحقاً، صوراً قاتمة للمشهد السياسي والأمني في طرابلس، وشكلت قضيته نمطاً أوسع من الأدوار المتشابكة بين الميليشيات ومؤسسات الدولة والأفراد في مناصب السلطة.
كان صعود أسامة نجم الملقب بـ (المصري) من سائق سيارة إلى شخصية مهمة في جهاز الأمن الليبي صورة السلطة المظلمة في ليبيا بعد عام 2011، فبعد انهيار نظام الرئيس معمر القذافي، سمح الفراغ في السلطة المركزية للميليشيات بالنمو دون رادع، وارتقى نجم، الذي يفتقر إلى المؤهلات الأساسية، في صفوف ميليشيا الردع، وهي المجموعة التي اكتسبت سمعة سيئة بسبب سيطرتها على المرافق والسجون الرئيسية، بما في ذلك معيتيقة، فانتقلنجم خلال مراحل الفوضى السياسية إلى دور حكومي كمدير للشرطة القضائية، ما أدى إلى طمس الخطوط الفاصلة بين سلطة الدولة ونفوذ الميليشيات.
سجن معيتيقة: نموذج مصغر للتحديات التي تواجهها ليبيا
أصبح سجن معيتيقة، تحت إدارة نجم، رمزاً لانتهاكات حقوق الإنسان المنتشرة في مرافق الاحتجاز في ليبيا، حيث وثقت التقارير الصادرة عن منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش مسائل خطيرة، بما في ذلك التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء واستغلال المهاجرين، وأدت السمعة القاتمة إلى تشبيه معيتيقة بـ “مسلخ بشري”، فهو عكس القوة غير المقيدة للمسؤولين المتحالفين مع الميليشيات والذين يعملون تحت ستار من شرعية الدولة.
وجاء اعتقال نجم في تورينو بإيطاليا في 18 يناير، بعد إشعار من الإنتربول، ومذكرة صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، ويكشف توقيت ومكان اعتقاله خلال حضوره مباراة كرة قدم طبيعة تفكيره في الإفلات من العقاب وجرأة تحركاته عبر الحدود الدولية بشكل يوحي بضمانات من عدم اعتقاله.
ويؤكد هذا الحدث على الطبيعة العالمية الهشة لجهود المساءلة والتحديات المتمثلة في تقديم الجناة إلى العدالة، فاتهامات المحكمة الجنائية الدولية لنجم تصل إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مع اتهامات موصوفة بالتعذيب والعنف الجنسي والقتل غير القانوني، لكن المسألة الأهم هي اعتقاله بالعلن وطريقة تنفيذ المجتمع الدولي للعدالة بشكل غير منسق أو مدروس، فظهر اعتقاله بصورة ضغط سياسي أكثر من كونه تنفيذا للعدالة.
إفراج مثير للجدل
كان اعتقال نجميشبه سيناريو معد سلفاً على الأخص أن احتجازه لم يدم طويلا،ً فأطلقت السلطات الإيطالية سراحه بسبب “أخطاء إجرائية” تحمل في خلفيتها اعتبارات سياسية صريحة، فهذا الإجراء الغريب ينقل الفشل في الالتزام بالبروتوكولات المتعلقة بطلبات تسليم المحكمة الجنائية الدولية، ويشير إلى أن إطلاق سراح نجم مرتبط بالمصالح الاستراتيجية لإيطاليا في ليبيا، وخاصة فيما يتعلق باتفاقيات مراقبة الهجرة والتعاون في مجال الطاقة، فالانتقادات التي وجهت لها واتهامها باتباع المعايير المزدوجة في تطبيق العدالة، ينقل كل القلق الأوروبي تجاه مصالحها في ليبيا، سواء تعلق الأمر بالاتفاقيات الرسمية، أو حتى بسلامة العاملين الأجانب نظراً للطبيعة الخاصة بين المسؤولين في الغرب الليبي والميليشيات التييمكن اعتبارها سلطة الأمر الواقع.
وأظهرت طريقة تعامل إيطاليا مع قضية نجم النفاق الواسع الذي نواجهه في العلاقات الدولية، فالحكومات الغربية تدافع وفق التصريحات على الأقل عن حقوق الإنسان وسيادة القانون، لكن أفعالها تعطي الأولوية للمكاسب الجيوسياسية أو الاقتصادية قصيرة الأجل، وقضية نجم تكشف الديناميكية، حيث أطلقت إيطاليا، رغم استضافتها لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، سراح رجل متهم بارتكاب انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
وكما تسلط التوترات الدبلوماسية التي تلت ذلك بين إيطاليا والمحكمة الجنائية الدولية الضوء على هشاشة آليات العدالة الدولية عندما تواجه واقع السياسات والانحياز إلى المصالح الضيقة.
الواقع المزدوج لطرابلس
يؤكد دور نجم كزعيم ميليشيا ومسؤول حكومي على الازدواجية في قلب حكم طرابلس، فهو يعمل مع زعماء الميليشيات تحت ألقاب الدولة بينما يمارس العنف والفساد خارج الإطار الرسمي، وتخلق هذه الثنائية نظاماً يجعل الخطوط الفاصلة بين الشرعية والجريمة غير واضحة، بينما تظل المساءلة بعيدة المنال، وتعكس شخصيات بارزة من زعماء الحرب في ليبيا مثل صلاح بادي وأحمد الدباشي وغيرهما مسار نجم، ما يجسد تطبيع السلوك الإجرامي داخل مؤسسات الدولة، وهذا الأمر يؤدي لتفاقم الوضع بسبب انتشار الأسلحة والافتقار إلى حكومة وطنية موحدة قادرة على فرض سيادة القانون.
وفي نفس الوقت فإن قضية نجم تثير أسئلة حول مستقبل العدالة والاستقرار في ليبيا، فهي تسلط الضوء على قيود المحكمة الجنائية الدولية في السعي إلى المساءلة داخل نظام دولي مجزءء، وتؤكد عدم القدرة على تنفيذ قرارات عادلة وبشكل يقوض مصداقية المحكمة والسعي الأوسع لتحقيق العدالة للضحايا.
ومن جانب آخر تؤكد القضية على الحاجة إلى نهج شامل لتفكيك العلاقة بين الميليشيات والدولة في ليبيا، فزعماء الميليشيات يحتفظون بالسيطرة على وظائف الدولة الرئيسية، وهذا الأمر يعطل الجهود الرامية إلى إرساء سيادة القانون، ويكشف أن التحديات المتمثلة في التعامل مع تقاطع المصالح المحلية والدولية، فقرار إطلاق سراحه يخدم أهدافاً قصيرة الأجل، لكنه يخاطر بتقويض الثقة العالمية في أنظمة العدالة وتشجيع الجناة الآخرين.
طرابلس أم لاهاي؟
لا يزال السؤال حول مصير نجم النهائي مفتوحاً، وسواء خضع للمحاكمة في ليبيا أو لاهاي أو نجى منها، فإن المسألة السياسية وراء اعتقاله ستبقى قائمة، فهو وغيره يمثلون ورقة ضغط لا تكترث بردود الفعل المتباينة التي أعرب عنها الضحايا ونشطاء حقوق الإنسان، فدولياً، لا تزال المحكمة الجنائية تواجه عقبات في تنفيذ أوامرها، وخاصة في الدول ذات المؤسسات الضعيفة أو المصالح الخاصة في حماية المشتبه بهم، وبالنسبة لليبيا، ترمز قضية نجم إلى صراع أوسع نطاقاً: المعركة بين الإفلات من العقاب والعدالة في بلد يسعى إلى إعادة البناء وسط الفوضى.
وإن قصة نجم لا تتعلق فقط بأفعال رجل واحد؛ بل إنها نموذج مصغر لبلد عند مفترق طرق، ويحدد ما إذا كانت ليبيا والمجتمع الدولي قادرين على اغتنام هذه اللحظة للمطالبة بالمساءلة والإصلاح ودفع مسار البلاد نحو الاستقرار والعدالة، وفي الوقت الحالي، تظل القضية مثالاً صارخاً على هشاشة سيادة القانون في دولة ممزقة إلى حد كبير وعلى ازدواجية القيم في المنظومة الدولية.
بقلم: نضال الخضري