الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس ضد السياسات المصرية؛ توجت بتظاهرات نظّمها أنصار المفتي السابق الصادق الغرياني، أعقبتها أعمال عنف استهدفت مبنى بعثة مصرية غير مستخدم، وهذا التطور لا يمكن عزله عن السياق الأوسع لفشل الدولة الليبية في فرض سيطرتها.
الأسئلة التي تثيرها هذه الأحداث مرتبطة بطبيعتها وعلاقتها بسياسة حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، فهل تعكس تصعيدا مدبّرا يخدم أجندات خفية، أم أنها تعبير عن عجز بنيوي لدى حكومة عبد الحميد الدبيبة.

لا تبدو احتجاجات الغرياني وأتباعه مجرد ردة فعل شعبية عفوية، إنما كانت تفاعلا مركّب بين الاستقطابات الدينية والسياسية والتجاذبات الإقليمية؛ وسط تفكك مؤسساتي يحدّ من قدرة طرابلس على حماية المنشآت الدبلوماسية أو كبح جماح الجماعات المتطرفة.
الجذور الدينية والسياسية: الغرياني وفتاوى التمرد
المفتي الصادق الغرياني ليس مجرد رجل دين تقليدي؛ بل يعد من أبرز الفاعلين السياسيين في المشهد الليبي ما بعد 2011، واستغل موقعه لإصدار فتاوى ذات طابع تعبوي، تحضّ على القتال وتُضفي شرعية دينية على صراعات مسلحة ضد خصومه السياسيين والعسكريين.

وبرز الغرياني كصوت دائم في معسكر الإسلام السياسي، مستخدما منابر الإعلام الديني لتأطير رؤيته حول “الجهاد المشروع”، ما جعله محل إدانة من دول عدة، منها مصر والإمارات والسعودية، حيث أُدرج اسمه على قوائم الإرهاب نظرا لتأييده المتكرر لمواقف متطرفة خلال النزاعات الليبية المتتالية.

في هذا السياق، لا يمكن فهم الاحتجاجات المناهضة لمصر في طرابلس التي حرّض عليها بشكل مباشر؛ بمعزل عن هذا الدور التاريخي المثير للجدل، فالغرياني لا يدعو إلى التظاهر إلا إذا كان ذلك يخدم خطا أيديولوجيا تتقاطع فيه سرديته الدينية مع مصالح سياسية محددة، فالتحريض الأخير ضد مصر بدا وكأنه تمهيد مقصود لهجوم عنيف، جرى تنفيذه بانسجام مريب مع خطابه، ما يوحي بوجود تخطيط وتناغم بين الخطاب الديني المتشدد وبعض المجموعات المسلحة ذات النفوذ في العاصمة.
عملية الهجوم: تطرف في ظل تقاعس رسمي
في مشهد يختزل الفوضى التي يعيشها الغرب الليبي، هاجم متطرفون مبنى تابعا للبعثة المصرية في قلب العاصمة طرابلس، دون أن تُبدِي الأجهزة الأمنية أيّ رد فعل يُذكر، وكأنّ الأمر لا يعنيها،والمبنى، رغم أنه غير مستخدم حاليا لأغراض دبلوماسية، لم يكن مجرد منشأة مهجورة؛ بل رمزاً لعلاقة رسمية بين دولتين، ومع ذلك تُرك عرضة للانتهاك، في سابقة تُحرج الدولة الليبية أمام المجتمع الدولي.

هذا الاعتداء ليس مجرد تفصيل في فوضى العاصمة، بل تجلٍّ صريح لخلل بنيوي عميق، فدولة لا تستطيع تأمين منشآت سيادية، ولو كانت “رمزية”، وتُصبح في أعين العالم فاقدة لسلطتها على الأرض، أما الرسالة الأخطر، فهي أن الميليشيات والجماعات المتطرفة في طرابلس باتت تتحرك بثقة، وبتواطؤ أو صمت من السلطات، ما يعكس هشاشة السيطرة الحكومية، إن لم يكن انهيارها الكامل في بعض الملفات الأمنية.
الدبيبة والتصعيد اليائس: أهداف مجهولة؟
ترصد هذه الحوادث توجّها تصعيديا من حكومة الدبيبة نحو مصر، من دون وضوح يربط خطواته مع أهداف ملموسة، ومؤشرات العلاقات الليبية مع مصر تطرح علاقة بين تجاهل طرابلس لما حدث وبيئة سياسية إقليمية تظهر في:
- أزمة الحدود البحرية فالاتفاق التركي–الليبي يقوّض الاتفاق اليوناني–المصري بشأن المنطقة الاقتصادية الخالصة، ما يجعل القاهرة تشعر بخطر استراتيجي على زهاء 70% من نفطها القادم من شرق المتوسط.
- التوتر مع أنقرة؛على الرغم من تحسُّن نسبيّ في العلاقات بين القاهرة وأنقرة مؤخرا، فإن تداعيات الاتفاق البحري أعادت إشعال الغضب التركي–المصري في ملفات النفوذ.
والهجوم الأخير ليس الأول من نوعه، فطرابلس التي شهدت تحرشا بدبلوماسيين بريطانيين أثناء موكبٍ رسمي، دون قدرة على حماية الزوار، وقصفا استهدف سفارة فرنسا، والدعوات التي طلبت إلى نقل البعثات إلى بنغازي هي إشارة واضحة إلى طبيعة الواقع الذي يعيشه الغرب الليبي، ويوضح بأن الدبيبة غير قادر على فرض الحد الأدنى من النظام.
سيناريوهات وتفسيرات محتملة
من المحتمل أن تكون الأزمة المفتعلة مع مصر جزءاً من استراتيجية داخلية تهدف إلى تعبئة الرأي العام الليبي خلف شعارات وطنية أو دينية، ودون مضمون سياسي فعلي، فبعض الفاعلين داخل طرابلس يجدون في “الخطاب المناهض لمصر” وسيلة سريعة لحشد التأييد الشعبي، وفي سياق أزمة شرعية خانقة تمرّ بها حكومة الدبيبة، فإن تأجيج العاطفة الدينية والقومية ضد دولة جارة يوفر غطاء للصراعات الداخلية، ويحول الأنظار عن إخفاقات الحكومة في الملفات المعيشية والأمنية.

كما لا يمكن استبعاد فرضية توجيه الأزمة نحو الخارج، وتحديدا القاهرة، من خلال توريطها في مواجهة دبلوماسية محسوبة مع طرابلس، فتصعيد الغضب الشعبي يُمهّد لمواقف رسمية أكثر تشدداً، أو يدفع مصر نحو الانكفاء، وهو ما يخدم مصلحة أطراف إقليمية معنية بإبقاء مصر خارج الملف الليبي، وتبدو حكومة الدبيبة كأنها تتحرّك تحت وطأة استقطابات إقليمية معقّدة، تسعى من خلالها إلى تحسين موقعها التفاوضي أو الوفاء بالتزامات ضمنية تجاه داعميها في أنقرة أو الدوحة.
القراءة السياسية للعنف
تتعارض سلوكيات حكومة الدبيبة مع بنود اتفاقية فيينا لحماية البعثات الدبلوماسية، كما أن التواطؤ الأمني، سواء بالفعل أو بالامتناع، يُعد إخلالا بالتزامات الدولة تجاه الضيوف الدبلوماسيين، فالمظاهرات ضد السياسات المصرية المنددة بإغلاق السلطات المصرية لمعبر رفح الحدودي لم تكن فقط في ليبيا، بل انتشرت في عدد من العواصم والمدن حول العالم، حيث خرج متظاهرون من خلفيات مختلفة للتعبير عن غضبهم واستنكارهم لما وصفوه بسياسات الحصار والتجويع المفروضة على سكان غزة.

ورغم الزخم العاطفي والسياسي الذي رافق تلك التحركات، لم تأخذ الشكل الذي ظهر في طرابلس، ما يعكس إصرار المشاركين على التعبير عن تضامنهم مع غزة ضمن أطر الاحتجاج المدني المسؤول.
ومن أبرز الانعكاسات المحتملة لهذا التصعيد، احتمال دخول العلاقات الليبية–المصرية في طور الجمود أو حتى القطيعة الدبلوماسية، كما شهدنا في حالات سابقة حين اقترنت التدخلات العسكرية بتوترات سياسية مفاجئة،ومثل هذا التدهور سيعطل قنوات التواصل السياسي بين البلدين، ويُفقد ليبيا دعما إقليميا توفره القاهرة سواء في المحافل الدولية أو عبر آليات التنسيق الأمني الحدودي.
كما يُنذر التوتر الحالي بتعطيل عدد من المشاريع الاقتصادية الحيوية، لا سيما في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، وتأمين الحدود المشتركة، ما يُفاقم الأزمات الاقتصادية التي تعانيها ليبيا أساسا، وتصوير القاهرة كطرف منحاز في الصراع الداخلي الليبي، وهو ما تسعى بعض القوى في طرابلس لتكريسه، يُعمّق الانقسام بين شرق البلاد وغربها، ويعقّد جهود الوساطة الدولية التي تعتمد على دور مصري متوازن لتقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية المتنازعة.
فشل الدولة السياسي
إن تداعيات الهجوم على مبنى البعثة المصرية في طرابلس مؤشر على ضعف السيطرة الأمنية والمدنية لحكومة الدبيبة، وعلى اتساع هامش الإفلات من العقاب الذي تستفيد منه الميليشيات والجماعات المتطرفة في العاصمة، كما يكشف عن توظيف الشأن المصري في الخطاب الداخلي للتغطية على فشل سياسي متراكم أو تهميش متزايد لبعض التيارات.

هذه التطورات تفتح الباب أمام تصعيد إقليمي واسع، خاصة في ظل التوترات المستمرة بين تركيا ومصر، وما يرافقها من تعارض في الاتفاقيات البحرية التي تُعد ليبيا أحد ميادينها الحاسمة.

ويواجه الدبيبة اليوم تحديا فإما أن يقود إصلاحا حقيقيا في الداخل يعزز هيبة الدولة وسيادتها، أو يستمر في القيام بأدوار لخلق توازن مع الأطراف الداخلية والخارجية، فيما تستمر دائرة التمزّق الأمني والدبلوماسي الليبية.
بقلم: مازن بلال
ليبيا.. أزمة بيئية بسبب انتشار سوسة النخيل الحمراء
