05 ديسمبر 2025

الخلاف الأخير الذي انفجر بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، والمفتي المعزول الصادق الغرياني، لم يكن سوى عرض لصراع أعمق بكثير من مجرد خلاف حول “ميزانية دار الإفتاء” أو “سجناء أبرياء”.

 

خلف الألفاظ الهادئة، تختبئ شبكة من المصالح السياسية والأمنية والدينية، تتقاطع فيها خيوط المال والميليشيات والإيديولوجيا، وما بدا في ظاهره سوء تفاهم بين حليفين سابقين، في جوهره معركة على من يملك ورقة الإرهاب ويستخدمها للضغط داخل المشهد الليبي.

جذور الخلاف: من «أبرياء معيتيقة» إلى فضيحة علنية

بدأت القصة حين وجه المفتي المعزول الصادق الغرياني طلباً مباشراً إلى حكومة الدبيبة للإفراج عن 56 شخصاً موقوفين في سجن معيتيقة الخاضع لسيطرة جهاز الردع الخاص، مبرّراً ذلك بأنهم “أبرياء”، وتبيّن لاحقاً أنهم على صلة مباشرة بتنظيمي داعش والقاعدة، وفق تقارير جهاز الردع، الذي وصف خمسين منهم بأنهم “عناصر خطيرة من داعش”، وستة آخرين بأنهم “قيادات ميدانية من القاعدة”.

لم تكن الفضيحة في مضمون الطلب بحد ذاته، فليبيا اعتادت خلال العقد الأخير على تسويات غامضة مع متطرفين جرى إخراجهم من السجون تحت ذرائع “المصالحة” أو “العدالة التصالحية”، بل في الطريقة التي خرج بها الأمر إلى العلن، فكشفت وسائل الإعلام أن الدبيبة سلّم بنفسه قائمة الأسماء إلى نائبة المبعوثة الأممية ستيفاني خوري، وهو ما تسبّب بإحراج بالغ لحكومته أمام البعثة الأممية.

الدبيبة في مأزق.. والغرياني يكشف اللعبة

تلقّى الدبيبة الضربة وهو في أضعف حالاته السياسية، فحكومته المنتهية الولاية تواجه ضغوطا ًداخلية متصاعدة من الشارع، ومن فصائل مسلحة غاضبة من احتكار القرار المالي، ومن البعثة الأممية التي تريد تشكيل سلطة جديدة موحدة.

كان الدبيبة بحاجة ماسة إلى دعم ديني وسياسي من التيار الإسلامي الذي يمثله الغرياني، وهو ما يفسّر سكوت حكومته الطويل عن تجاوزات المفتي المعزول، وتغاضيها عن الخطاب التحريضي الذي تبثّه قناة “التناصح” التابعة له.

الغرياني لم يكتفِ بالابتزاز السياسي في الكواليس، بل أصرّ على إعلان الخلاف أمام الملأ حين وصف أداء حكومة الدبيبة بـ”المخزي والمتردي”، واتهمها بالتنكر لحلفائها السابقين وممارسة سياسة “الإقصاء المالي” ضد دار الإفتاء لصالح وزارة الأوقاف المحسوبة على التيار السلفي.

من توازن التحالف إلى حرب نفوذ

العلاقة بين الدبيبة والغرياني لم تكن يوما ًعلاقة مبدئية، بل تقاطع مصالح محض، فالدبيبة، القادم من مصراتة، أدرك باكراً أن بقاء حكومته في طرابلس يحتاج إلى مظلة دينية تبرّر استمراره وتؤمّن له شرعية معنوية في مواجهة خصومه، والغرياني، من جانبه، وجد في دعم حكومة الدبيبة وسيلة لإبقاء نفوذه داخل العاصمة بعد أن فقد شرعيته الدستورية منذ أن عزله مجلس النواب عام 2014.

لكن تلك الشراكة التي بدأت بـ”تبادل منافع”، تحولت إلى علاقة ابتزاز متبادل، فالدبيبة يمنح دار الإفتاء تمويلاً وغطاءً سياسياً، مقابل فتاوى ومواقف داعمة تبثها قناة “التناصح” وتخدم أجندة بقائه، ومع تزايد الاحتقان داخل المشهد الليبي، بدأ الغرياني يرفع سقف مطالبه بتمويل إضافي، وإطلاق سجناء متهمين بالإرهاب، وتوسيع نفوذ أنصاره داخل وزارة الأوقاف والمساجد، وعندما بدأ الدبيبة يتراجع تحت ضغط أميركي وأممي، قرر المفتي أن يفضح اللعبة.

البعد الإقليمي والدولي: بين أنقرة وواشنطن

لا يمكن قراءة هذا الصراع بمعزل عن البعد الإقليمي، فالغرياني كأحد أبرز رموز التيار الإخواني في ليبيا يحتفظ بعلاقات وثيقة مع أنقرة، وكان له دور أساسي في ترسيخ الوجود التركي في غرب البلاد عبر تبرير التدخل العسكري والدفاع عنه دينياً.

أما الدبيبة فحاول في الأشهر الأخيرة موازنة علاقاته بين تركيا والولايات المتحدة، مستجيباً أحياناً لضغوط واشنطن في ملفات مكافحة الإرهاب، ما أثار غضب تيارات الإسلام السياسي التي رأت في ذلك تراجعاً عن “التحالف التاريخي”.

جاء تسريب خبر قائمة الـ56 ليكون رسالة مزدوجة، فهي تحذير للدبيبة من تجاوز “الخطوط الحمراء” الإسلامية، وتنبيه للأتراك بأن الرجل يتحول إلى عبء إذا واصل تقديم التنازلات للغرب، وما يفسر غضب الغرياني أكثر المعلومات التي تحدّث عنها بنفسه حول “لقاء روما”، حيث زعم أنه تم مناقشة ملف “توطين مهجّري غزة في ليبيا” برعاية أميركية، وهي رواية فسّرها مراقبون بأنها محاولة متعمدة لإحراج حكومة الدبيبة وإجهاض أي تقارب سياسي بين الشرق والغرب يهدد نفوذ التيار الإسلامي.

المال والميليشيا والدين: مثلث السيطرة

ما يجمع الدبيبة والغرياني ليس الإيمان بالمشروع الوطني، بل إدراكهما لقيمة السيطرة على ثلاثة موارد حيوية في ليبيا هي المال والميليشيا والدين، فالدبيبة يستخدم خزينة الدولة ومؤسساتها المالية لكسب الولاءات وشراء الوقت، بينما يعتمد الغرياني على شبكة المساجد والقنوات الدينية لتأطير جمهوره وتأجيج الرأي العام عند الحاجة، وبين الطرفين تقف الميليشيات المسلحة التي تتحرك وفق مصالح آنية، وغالباً ما تكون هي الحَكم الفعلي في النزاعات.

سجن معيتيقة نفسه، الذي كان مسرح الخلاف الأخير، ليس مجرد مؤسسة عقابية، بل رمز لتوازنات السلطة في طرابلس، حيث يضم مئات المعتقلين من عناصر داعش والقاعدة، إلى جانب سجناء سياسيين، وتسيطر عليه “قوة الردع الخاصة” التي تتبع شكلياً وزارة الداخلية، لكنها عملياً تتمتع باستقلالية شبه كاملة، ومحاولة الغرياني التدخل في هذا الملف لم تكن بريئة؛ بل خطوة لاختبار مدى قدرة الدبيبة على مواجهة الحلف الإسلامي إذا تعارض مع مصالحه.

الانقسام الديني.. وجه آخر للأزمة السياسية

تصاعد الخلاف بين دار الإفتاء ووزارة الأوقاف أعاد إلى الواجهة الانقسام العميق بين التيارين السلفي والإخواني في ليبيا، فدار الإفتاء، التي كانت لعقد من الزمن واجهة للتيار الإخواني، ترى في تمدد وزارة الأوقاف السلفية تهديداً مباشراً لمصادر نفوذها المالي والدعوي، بينما يجد السلفيون في دعم الحكومة لهم فرصة لتقويض تأثير الإخوان وإضعاف الغرياني الذي اتهمهم بـ”العمالة للمخابرات الأجنبية”.

هذا الصراع الديني المتنامي يعكس أزمة هوية للدولة الليبية نفسها، فهل هي دولة مدنية تسعى لضبط العلاقة بين الدين والسياسة، أم دولة رهينة لسلطات دينية متنازعة تُعيد إنتاج العنف باسم العقيدة؟ الواقع يقول إن الدبيبة، رغم شعاراته المدنية، لم يتردد في توظيف الدين متى احتاج إليه، بينما يستخدم الغرياني الدين كوسيلة للتهديد والابتزاز السياسي.

بين العلن والظل: من يدفع الثمن؟

ما جرى كشفه للعلن في مسألة الغرياني والدبيبة ليس إلا قمة جبل الجليد، فمسألة الإفراج عن عناصر متطرفة ليست سابقة في ليبيا، فالجديد هو أن “التحالف القديم” بين رجل السياسة ورجل الدين بدأ يتفكك، لتطفو على السطح تفاصيل تكشف مدى تغلغل منطق المساومة مع الإرهاب داخل مؤسسات الدولة.

وفي الوقت الذي انشغلت وسائل الإعلام بخلافات التصريحات والميزانيات، يبقى السؤال الأخطر هو هل أُفرج فعلاً عن الـ56 شخصاً الذين دافع عنهم الغرياني؟ لا أحد يملك جواباً قاطعاً، فالصمت الرسمي للحكومة، وغياب أي بيان من جهاز الردع، يفتح الباب أمام تكهنات ترجح أن الإفراج تم فعلاً بطريقة غير معلنة، ما يعني أن الخلاف بين الرجلين لم يكن حول المبدأ، بل على من يتحمل تبعاته أمام المجتمع الدولي.

ليبيا بين رهينتين

تكشف هذه الأزمة أن ليبيا لا تزال رهينة بين سلطتين غير شرعيتين؛ الأولى سياسية تعتمد على المال العام وتعيش من التلاعب بالمراحل الانتقالية، والثانية دينية تستمد قوتها من خطاب التحريض والقداسة الزائفة، ووسط هذا المشهد، يتحول المواطن الليبي إلى رهينة ثالثة، تُدار مصائره بين رجلين أدرَك كل منهما كيف يستخدم الآخر، حتى وإن بدا اليوم أن خلافهما بلغ حد القطيعة.

الدبيبة والغرياني يجسدان وجهين لعملة واحدة؛ التوظيف السياسي للدين والسلطة في بلد أنهكته الميليشيات والانقسامات، وإذا كان الخلاف بينهما فضح المستور، فهو أيضا فرصة نادرة لليبيين لإعادة طرح سؤالهم المؤجل منذ عقد، فمن يحكم ليبيا فعلا؟ الدولة أم الميليشيا أم الفتوى؟

حتى يُجاب عن هذا السؤال، سيبقى كل حديث عن “الاستقرار” و”الوحدة الوطنية” مجرد شعارات تتهاوى أمام واقع تحكمه الصفقات والابتزاز، وتختفي فيه حدود الفساد تحت عباءة الدين والسياسة معاً.

     بقلم: نضال الخضري

9 دول عربية على موعد مع أطول كسوف شمسي

اقرأ المزيد