02 أبريل 2025

طرحت زيارة رئيس جهاز دعم الاستقرار في ليبيا عبد الغني الككلي، المعروف بلقب “غنيوة”، إلى إيطاليامسألة مصداقية التشريعات الأوروبية تجاه المتورطين بجرائم، ويتولون مناصب رسمية في حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية.

الأسئلة التي طرحتها زيارة “غنيوة” تجاوزت الحدود الإيطالية وانتشرت في الأوساط الأوروبية والدولية، حيث جاءت الزيارة ضمن وفد رسمي من حكومة الوحدة الوطنية الليبية، منتهية الولاية، وتزامنت مع تسريبات أممية جديدة تكشف عن شبكة نفوذ وفساد ممنهج تورط فيها “غنيوة” ومقربوه داخل مؤسسات الدولة الليبية.

وأن تورط “غنيوة” في أنشطة غير قانونية مرتبطة بتعاطي وتجارة المخدرات ليس جديدا، ورغم قضائه 14 عاما بتهم جنائية لم تمنع من تعينه في يناير 2021 من قبل رئيس المجلس الرئاسي آنذاك، فائز السراج، رئيسا لجهاز دعم الاستقرار، وللمفارقة فهذا الجهاز مكلف بمحاربة الفساد وتجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية في ليبيا.

زيارة مشبوهة في توقيت حرج

انفجر الجدل بمجرد تسريب خبر زيارة غنيوة إلى روما برفقة مسؤولين ليبيين، بينهم وزراء وسفراء، بهدف عيادة وزير الدولة الليبي عادل جمعة الذي يتلقى العلاج في مستشفى أوروبي بعد محاولة اغتيال نجا منها في فبراير الماضي، والغريب أن “غنيوة” دخل إيطاليا بتأشيرة شنغن قانونية صادرة عن مالطا، ما يعني حصوله على موافقة ضمنية من جميع دول الاتحاد الأوروبي المشاركة في نظام شنغن.

وأثارت هذه التفاصيل تساؤلات عن الخلفية الأمنية التي تسمح لشخص ورد اسمه في أكثر من 20 موضعا في تقرير أممي يتحدث عن الفساد والانتهاكات الجسيمة، بدخول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي من دون اعتراض رسمي، فالوثيقة الأممية ( S/2024/914) ترسم صورة واضحة لعبد الغني الككلي كزعيم غير رسمي لشبكة تمارس نفوذا حقيقيا على مؤسسات حيوية في الدولة الليبية، حيث أشار التقرير إلى:

  • تدخل مباشر في عمل الشركة العامة للكهرباء من خلال تعيين حليف مقرّب، محمد عمر المشاي، الذي تولى إدارة الشركة عقب اتفاق سياسي مع رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة.
  • منح عقود بمئات الملايين من الدولارات دون معايير واضحة، منها صفقة عدادات كهرباء تجاوزت قيمتها 200 مليون دولار.
  • اقتحامات مسلحة لمقرات رسمية، منها هيئة الرقابة المالية، لفرض الإرادة السياسية والاقتصادية على أجهزة الدولة.

لكن الأخطر من الفساد المالي هو الطابع الذي يغلف عمل جهاز دعم الاستقرار الذي يتسم بكل سمات “الميليشيا المسلحة”، وهذا الأمر جعل كل من هيئة أمن المرافق والمنشآت، وجهاز الأمن الداخلي تحت سيطرة أشخاص يدينون بالولاء للككلي، فهيئة أمن المنشآت، برئاسة أسامة طليش، تتحكم فعليا بالمقار الحيوية، وعلى رأسها البنك المركزي الليبي، وجهاز الأمن الداخلي بقيادة لطفي حراري متورط في خمس حالات موثقة من الاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري، مع شهادات تؤكد استخدامه للقوانين المحلية كأداة قسرية لترهيب المعارضين.

إيطاليا بين المصالح الأمنية والحرج الأخلاقي

تجد روما نفسها اليوم في موقف محرج، فمن جهة تعتبر ليبيا شريكا حيويا في ملف الهجرة غير الشرعية، و”جهاز دعم الاستقرار” يتم تسويقه إعلاميا على الأقل كذراع أمنية فاعلة في الحد من تدفقات المهاجرين، ولكن من جانب آخر يُعتبر تجاهل الاتهامات الخطيرة الموجهة للككلي اختراقا للشفافية، ويمس بصورة إيطاليا كدولة ترفع راية حقوق الإنسان وسيادة القانون.

ولم تتأخر وسائل الإعلام الليبية الموالية لحكومة الدبيبة في استغلال الموقف، وقامت بحملة إعلامية للتأكيد على أن غنيوة “شريك استراتيجي” لأوروبا في الحرب ضد الهجرة والجريمة، والتقطت الصحافة الإيطالية، وخاصة “لا ريبوبليكا”، هذا التناقض وسلّطت الضوء على “ازدواجية المعايير” الأوروبية، التي تستقبل من تتهمه منظمات مثل العفو الدولية بارتكاب جرائم تعذيب وقتل خارج نطاق القانون.

ورغم أن الككلي ليس مدرجاً على قوائم الإنتربول أو المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن الوثيقة الأممية يمكن أن تشكّل أساسا قانونيا لفتح تحقيق رسمي في المستقبل، والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، صرح سابقا بأن تقارير فريق الخبراء الأمميين تُعد “وثائق محورية” لأي ملاحقات قضائية مستقبلية، ورغم رفض المحكمة التعليق على قضية الككلي بشكل خاص، فإن صمتها لم يخفف من الانتقادات الموجهة لبروكسل وروما على حد سواء.

الدبيبة والإعلام الرسمي: حملة دفاع منسقة

بدت حكومة الدبيبة وكأنها في سباق مع الزمن لاحتواء تبعات الفضيحة، حيث أطلق إعلاميون محسوبون على السلطة موجة تصريحات للتأكيد على “قانونية” الزيارة، وعلى “شرعية” الجهاز الذي يقوده الككلي، مشيرين إلى أنه تأسس بموجب مرسوم رئاسي في يناير 2021، وطالبوا الاتحاد الأوروبي بتزويد الجهاز بمعدات متطورة لمكافحة الهجرة، لكن هذه الحملة الإعلامية لم تُجب عن سؤال جوهري: هل من المقبول أن يقود جهاز متهم بارتكاب انتهاكات حقوقية جسيمة سياسة الأمن الليبي الأوروبي المشترك؟

تسليط الضوء على “غنيوة” ليس فقط عن شخص واحد، بل عن ظاهرة أوسع تتعلق بتضارب الأولويات بين الأمن والعدالة في علاقات أوروبا مع دول الجنوب،وإذا اختارت أوروبا أن تتجاهل سجل حقوق الإنسان من أجل تأمين حدودها، لكنها في هذه الحالة تخاطر ليس فقط بمصداقيتها، بل بإدامة أنظمة تغذي عدم الاستقرار ذاته الذي تهرب منه.

الملف لم يُغلق، والجدل مستمر،وزيارة “غنيوة” تبدو قانونية من الناحية الشكلية، لكنها بالتأكيد تُحرج مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتفتح الباب أمام نقاش عميق حول من يملك الحق في تمثيل الدولة الليبية، وما هو الثمن الأخلاقي الذي تدفعه الديمقراطيات الغربية لقاء “الاستقرار” في جنوب المتوسط.

بقلم: مازن بلال

اقرأ المزيد