أشعلت الإصلاحات البلدية الأخيرة لرئيس الوزراء منتهي الولاية عبد الحميد الدبيبة نقاشاً واستياءً واسعاً، فدمج البلديات وإنشاء فروع بلدية فرعية يشكل في النهاية مناورة سياسية تهدف إلى تعزيز السلطة.
يُظهر قرار الدبيبة بدمج العديد من البلديات، بما في ذلك تاورغاء وزمزم في مصراتة، تلاعباً في مسألة تحقيق الكفاءة الإدارية والتكامل الإقليمي، فوفق ما هو معلن تهدف هذه الإصلاحات إلى تبسيط الحكم والحد من التكرار البيروقراطي، لكن الإصلاح لم يتم عبر التشاور والشفافية والحساسية للنسيج الاجتماعي والسياسي الفريد في ليبيا، فخطوة الدبيبة لم تكن ديمقراطية وتحاول التحكم بالعمليات الانتخابية عبر إعادة رسم هياكل الحكم المحلي.
واتهم رئيس وزراء الحكومة المكلفة منقبل مجلس النواب أسامة حماد، الدبيبة بالسعي إلى “نشر الفوضى وتعطيل استكمال الانتخابات البلدية”، وعبر هذا التصريح عن المخاوف الواسعة النطاق من أن الإصلاح لا يتعلق بالتحسين الإداري بل يتعلق بالمصلحة السياسية.
أصوات السكان: صدع متعمق
جاءت المعارضة الأكثر وضوحاً من سكان البلديات المتضررة، ففي تاورغاء، اندلعت الاحتجاجات عندما رفض السكان إدراجهم تحت ولاية مصراتة، وهي مدينة لها تاريخ طويل من العلاقات المتوترة مع تاورغاء التي يشير سكانها لمخاوفهم من المزيد من التهميش، وفقدان الحكم الذاتي والمظالم غير المحلولة الناجمة عن الصراع في عام 2011.
يوضح هذا الموقف انعدام الثقة بين تاورغاء ومصراتة، فالخلاف متجذر وعميق نتيجة أحداث الحرب حيث تم اتهام تاورغاء بالتعاون مع قوات القذافي، ما أدى إلى انتهاكات بحقهم سببت نزوح جماعي، وسنوات من العداء، ورغم توقيع اتفاق المصالحة في عام 2018 تظل العلاقات هشة، ومن خلال دمج تاورغاء في إدارة مصراتة، يخاطر الدبيبة بتفاقم التوترات، وتقويض التقدم الهش نحو المصالحة.
في المقابل أعرب سكان زمزم عن مخاوف مماثلة، فالعديد منهم يرى أن القرار له دوافع سياسية، حيث يعطي الأولوية لتوسع مصراتة على حساب الحوكمة، وبين نائب وزير الخارجية السابق، حسن الصغير، أن هذه الخطوة تعكس “دوافع سياسية وتوسعية” وليس اعتبارات إدارية حقيقية، وأعرب عن أسف السكان على إهمال الاحتياجات المحلية والفشل في التشاور معهم قبل تنفيذ القرار.
انتقادات من الخبراء والمسؤولين
قرار الدبيبة في مسألة دمج البلديات أثار إدانات ضمن الفعاليات السياسية الليبية، حيث انتقد عضو مجلس النواب، عبد المنعم العرفي، طريقة فرض القرارات دون التشاور مع أصحاب المصلحة من سكان تلك المناطق، مشيراً إلى أنه يتجاهل حق السكان في تقرير المصير.
وامتد النقد إلى ما هو أبعد من المبادئ الديمقراطية، كما أشار الصغير إلى ضرورة عدم تجاهل الحقائق القبلية والديموغرافية في ليبيا، فالحكم المحلي الناجح يعتمد غالباً على التجانس الديموغرافي والتمثيل، وهو ما يغيب عن عمليات الدمج التي اقترحها الدبيبة، كما أن دمج البلديات الأصغر ذات الملامح الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتميزة في كيانات أكبر؛يؤدي إلى خلق اختناقات إدارية وانعدام الكفاءة.
من وجهة نظر قانونية، فإن إصلاحات الدبيبة تتجاوز تفويض حكومته الانتقالية التي انتهت ولايتها بالفعل، ووصف أسامة حماد القرارات بأنها “باطلة ولاغية”، واستشهد بانتهاكها للقانون الإداري ومبادئ الحكم اللامركزي، ودعا القضاء الليبي واللجنة الانتخابية إلى التدخل ودعم شرعية الهياكل البلدية.
وفي المقابل فإن نزاهة الانتخابات كانت ضحية أخرى لهذه الإصلاحات، فالهدف الخفي منها هو تأخير الانتخابات البلدية أو التلاعب بنتائجها، حيث يمكن أن يؤدي إدراج تاورغاء وزمزم في مصراتة إلى إمالة التوازن الانتخابي لصالح مصراتة، المعقل السياسي لحلفاء الدبيبة،ومثل هذه المناورات تقوض الثقة في العمليات الديمقراطية الناشئة في ليبيا.
نمط أوسع من المركزية
تعكس عمليات الدمج البلدية اتجاهاً أوسع للمركزية تحت قيادة الدبيبة، فالقرارات المتلاحقة بما فيها مسألة دمج البلديات تؤشر إلى أن حكومته أصبحت “جماعة مسلحة بحكم الأمر الواقع”، فنهجها القاسي في الحكم جعلها تعمل مثل الميليشيات، وتفرض قراراتها بالقوة وليس بالإجماع، فالدمج يؤدي إلى تآكل المبادئ الفيدرالية المنصوص عليها في إطار الحكم الليبي.
ومن المرجح أن تواجه البلديات الأصغر حجماً، والمهمشة بالفعل، المزيد من الإهمال في ظل هذا النموذج، ما يؤدي إلى تعميق التفاوتات الإقليمية في ليبيا.
وتواجه مصراتة التي تشكل محور إصلاحات الدبيبة مصيراً متناقضاً، فهي ستكسب بالتأكيد نفوذاً سياسياً من خلال عمليات الدمج، لكنها في نفس الوقت سترث تحديات خطرة، فباعتبارها واحدة من أكثر مدن ليبيا اكتظاظاً بالسكان، تعاني مصراتة بالفعل من ضعف الخدمات العامة، وسيؤدي استيعاب بلديات إضافية، تفتقر العديد منها إلى البنية الأساسية الكافية، إلى إجهاد مواردها بشكل أكبر.
وسيزيد الدمج من الأعباء الإدارية على المجلس البلدي في مصراتة، ما يجعله أقل فعالية، وتؤدي هذه الخطوة أيضاً إلى إثارة الاستياء بين سكان مصراتة، الذين سينظرون إلى المسؤوليات الإضافية باعتبارها أعباء غير ضرورية.
وأظهرت الاحتجاجات الواسعة النطاق ضد الإصلاحات مؤشراً واضحاً على عدم شعبيتها، فمن تاورغاء إلى زمزم، نزل السكان إلى الشوارع للمطالبة بالحكم الذاتي واحترام حقوقهم الانتخابية، وتعكس الاحتجاجات التي اتسمت بشعارات المقاومة والمطالبة بالعدالة، إحباطات عميقة الجذور إزاء نهج الحكومة المركزية، وبينت أن المظالم ليست مجرد حالة رمزية.
ويرى المحتجون أن عمليات الدمج تهدد قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الأساسية والتنمية العادلة والتمثيل المحلي، ومن خلال تجاهل هذه المخاوف، تخاطر الحكومة بزعزعة استقرار النسيج الاجتماعي في ليبيا.
وأشعلت الإصلاحات البلدية للدبيبة معارضة واسعة النطاق، وكشفت عن خطوط الصدع العميقة في نظام الحكم في ليبيا، حيث تؤكد ردود الفعل العنيفة من جانب المجتمعات المتضررة على أهمية الحكم الذاتي المحلي والشفافية والمساءلة الديمقراطية، وبدلاً من تعزيز الوحدة؛ فإن الإصلاحات تخاطر بتفاقم التفاوتات الإقليمية والتوترات الاجتماعية،وهو ما يفترض تبني نموذج حكم متجذر في الإدماج والشرعية، واحترام إرادة الشعب، وعندئذ فقط يمكن لليبيين أن يحققوا الاستقرار ويعيدوا بناء الثقة في مؤسسات دولتهم.
بقلم: نضال الخضري
تونس.. القبض على مؤثرة كاميرونية وسط خيم المهاجرين الأفارقة