05 ديسمبر 2025

في كل مرة تقف فيها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أمام مجلس الأمن لتقديم إحاطتها الدورية، تتجدد الأسئلة حول دورها الفعلي وحدود مسؤولياتها، فلم تعد هذه الإحاطات تُقرأ باعتبارها تقارير فنية أو خلاصات موضوعية، بل بحثا عن الرسائل المخفية.

الإحاطة الأخيرة التي قدمتها هانا تيتيه في 14 أكتوبر 2025 لم تكن استثناء، بل كانت أقرب إلى نقطة انعطاف في العلاقة بين البعثة والمشهد الليبي المتأزم، وردود الفعل المحلية جاءت صاخبة، بل وعدائية في بعض الحالات.

طيف واسع من السياسيين والمحللين رأوا في خطاب تيتيه انحرافا جديدا عن مهمة الدعم نحو ممارسة ضغط سياسي يفتقر إلى التوازن، وبدت البعثة وكأنها تتعامل مع الأزمة الليبية باعتبارها معضلة تقنية يمكن حلها بخريطة طريق ومواعيد نهائية، متجاهلة واقعا مركبا من الانقسام، وفقدان الثقة، وصراع النفوذ، وتتجلى المخاوف من أن الأمم المتحدة، بدل أن تيسّر الحل، صارت تكرّس الإحباط.

لهجة تصعيدية ورسائل مزدوجة

أكدت تيتيه أن الوقت حان لتنفيذ خريطة الطريق السياسية، وحثّت مجلسي النواب والأعلى للدولة على التوافق السريع بشأن المناصب السيادية والإطار القانوني للانتخابات، ملوّحة بما وصفته بـ”نهج بديل” في حال استمرار الجمود.

هذا التلميح لم يكن عابرا، بل فسّره عدد من السياسيين الليبيين كتهديد باستخدام “عصا مجلس الأمن” ضد الأطراف المحلية، ما أثار موجة من الغضب، أبرزها تصريحات أسامة حمّاد الذي اعتبر خطاب تيتيه تدخلا صريحً في الشأن الليبي الداخلي.

إحاطة تيتيه لم تمر دون رد من المندوب الليبي الدائم لدى الأمم المتحدة، طاهر السني، الذي خاطب مجلس الأمن مباشرة، متسائلا عن مدى جدية وفعالية خطط البعثة، ومشدّدا على ضرورة احترام السيادة الليبية، وذهب أبعد من ذلك حين قال: “إذا كانت المهمة صعبة، فاتركوا الشعب الليبي يقرر مصيره بنفسه”.

بعثة فاشلة أم واقع معقد؟

لم تكن هذه الانتقادات الأولى للبعثة الأممية، لكنها هذه المرة جاءت أكثر تماسكا، إذ أجمع عدد من المحللين والفاعلين السياسيين أن “أنسميل” لم تعد قادرة على تحريك المياه الراكدة، بل تحولت إلى عنصر من عناصر الأزمة.

ولخّص مدير المركز الليبي للدراسات ورسم السياسات، السنوسي بسيكري، فشل البعثة في أربع نقاط جوهرية تظهر في ضعف هيكلي داخل البعثة نفسها، وتعقيد المشهد السياسي الليبي، وتضارب المصالح الدولية والإقليمية، وعجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات حاسمة.

لم يكتف بسيكري بتشخيص الفشل، بل حمّل الطبقة السياسية الليبية مسؤولية إنتاج نفس الأزمة بشكل متكرر، داعيا إلى تغيير جذري لهذه الطبقة عبر ضغط شعبي أو تدخل دولي حاسم.

من جهته، رأى الباحث العربي الورفلي أن النزاع على المناصب السيادية، واستخدامها كأدوات نفوذ لا كوسائل خدمة، يكرّس الانسداد السياسي ويضرب الثقة في المسار الانتخابي، واتهم بعثة الأمم المتحدة بالمشاركة في تمييع المشهد، عبر ما وصفه بـ”الدبلوماسية الشكلية دون نتائج فعلية”.

خارطة الطريق: أداة ضغط أم غطاء للفشل؟

خريطة الطريق الأممية، التي دشنتها تيتيه في أغسطس الماضي، كانت في الأساس محاولة لإعادة إطلاق العملية السياسية، لكنها سرعان ما اصطدمت بالواقع الليبي المليء بالتحالفات الهشة والمصالح المتضاربة، ورغم إشادتها بانخفاض التوترات في طرابلس، فإن تيتيه لم تُخفِ قلقها من فشل المجلسين في تشكيل مجلس المفوضية أو الاتفاق على إطار دستوري واضح.

وأعلنت صراحة أنه “في حال استمرار هذا التعطيل، ستلجأ البعثة إلى نهج مختلف وستطلب دعم مجلس الأمن لدفع العملية السياسية إلى الأمام”، في إشارة إلى إمكانية تجاوز المؤسسات الليبية، ما أوجد مفارقة أساسية، فالبعثة الأممية يُفترض أن تدعم السيادة والمؤسسات، لكنها تلوّح بتجاوزها حين تعجز عن تحقيق اختراق.

مؤسسات ضعيفة وصراع على النفوذ

أزمة المناصب السيادية ليست مجرد خلاف إداري، بل تعكس معركة أعمق حول من يملك القرار في ليبيا، ويرى الورفلي أن الخلاف لا يدور فقط حول شاغلي المناصب، بل حول التحكم في القرار السياسي والاقتصادي، فالمفوضية الوطنية العليا للانتخابات، التي كانت يوما ما مؤسسة مهنية محايدة، باتت بدورها ساحة نزاع، وهناك من يتهم تيارات بعينها، وعلى رأسها جماعة الإخوان، بمحاولة الاستيلاء عليها لتعطيل الانتخابات أو التأثير على نتائجها.

تيتيه بدورها لم تُخفِ قلقها من الفساد والتلاعب المالي، مشيرة إلى اكتشاف 10 مليارات دينار ليبي من الأموال غير المشروعة هذا العام فقط، ورغم إشادتها بمبادرات مثل إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، فإن هذه الخطوات تظل محدودة الأثر في ظل انقسام مؤسسي وانعدام الثقة.

ازدواجية القضاء وبلبلة قانونية

واحدة من أخطر الأزمات التي أضاءت عليها تيتيه هي وجود نظامين قضائيين دستوريين متوازيين في الشرق والغرب، ما يضرب أسس الشرعية القانونية ويفاقم البلبلة المؤسساتية، وهذا الانقسام لا يهدد فقط الانتخابات، بل يضعف كل مبادرة لبناء دولة موحدة.

ربما السؤال الأهم اليوم: هل تسعى البعثة إلى حل جذري، أم أنها تكتفي بإدارة الأزمة؟ الإجابة تميل إلى الاحتمال الثاني، فتيتيه لم تأتِ بخارطة طريق جديدة بقدر ما أعادت تدوير مقاربات قديمة، متجاهلة السياق الليبي بكل تعقيداته، فالدعوات إلى الحوار المجتمعي وتوسيع التمثيل النسائي، رغم أهميتها الرمزية، لا تكفي لحل أزمات بنيوية.

طريق مسدود أم إعادة تقييم؟

المستقبل القريب سيحدده خياران فإما تعديل جوهري في طريقة عمل البعثة الأممية وتعاملها مع الملف الليبي، أو انهيار تام لمسار خريطة الطريق، بما يعيد البلاد إلى نقطة الصفر، وتيتيه نفسها تحدثت عن احتمالات لإعادة تفويض البعثة أو تقليصها، وهي إشارات لا تخلو من القلق.

عمليا فإن المواطن الليبي يدفع ثمن هذه التوترات، فالشعب يريد فقط “العيش بكرامة”، بينما يتنازع الساسة والبعثة حول تفاصيل لا تمسّ حياته اليومية، وإحاطة تيتيه لم تكن سوى مرآة لحقيقة مرة، فليبيا لا تعاني فقط من الانقسام، بل من غياب الفاعلين القادرين على تجاوز لعبة المصالح الضيقة نحو مشروع وطني شامل.

الإحاطة الأخيرة لهانا تيتيه لم تكن مجرد تقييم أممي للوضع الليبي، بل كانت اختبارا حقيقيا لمستقبل البعثة الأممية، وفي عيون كثير من الليبيين، لم تعد “أنسميل” طرفا نزيها، بل أصبحت جزءا من المعادلة التي تعيق الحل، وإذا لم تراجع البعثة نهجها، فستجد نفسها خارج دائرة التأثير، في بلد لم يعد يحتمل المزيد من التجريب الدولي أو الخطابات المكررة.

   بقلم: مازن بلال

المنتدى النسائي الأوراسي يدعو لحماية المرأة في مناطق الصراعات

اقرأ المزيد