أثار غياب مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا لأكثر من ستة أشهر تساؤلات جدية حول نهج المجتمع الدولي في حل الأزمة السياسية العميقة الجذور في البلاد، ودور الولايات المتحدة في تجميد الأزمة لتنفيذ أجندتها في إفريقيا.
منذ استقالة آخر مبعوث للأمم المتحدة، عبد الله باثيلي، في أبريل 2024، بقي هذا المنصب شاغرا وجعل من الأزمة الليبية حالة استثنائية ضمن مسار العلاقات الدولية، حيث تركت القضايا مثل الانتخابات والصراع السياسي لاتصالات دبلوماسية تسعى للتهدئة، وهذا الأمر أثار مخاوف الدول الإفريقية من جعل التوتر السياسي في ليبيا جزءا من استراتيجية أوسع للولايات المتحدة، التي أظهرت عبر سياساتها رغبة في الحفاظ على السيطرة من خلال شخصيات دبلوماسية مؤقتة بدلاً من الدفع نحو استبدال سريع.
موقف الولايات المتحدة من تأخير تعيين مبعوث جديد
عندما تنحى باتيلي عن منصبه بعد فترة مضطربة دامت 19 شهرا، ترك فراغا في جهود الأمم المتحدة للتوسط في أزمة ليبيا، وجاءت استقالته بعد اتهامات من الفصائل السياسية الليبية الرئيسية بانحيازه لصالح حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، وواجه انتقادات كبيرة من مجلس النواب والحكومة في الشرق لفشله في التوسط بشكل محايد.
وحاولت دول إفريقية مثل الجزائر وموزمبيق وسيراليون؛الضغط على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منذ استقالة باتيلي لتعيين مبعوث جديد لكسر الجمود السياسي في ليبيا،حيث ترى هذه الدول أن الافتقار إلى التقدم في تعيين ممثل جديد يؤدي إلى تفاقم الركود السياسي، وعلى الرغم من هذه الدعوات لم تبدي الولايات المتحدة أي حماس للتسريع في إجراء التعيين، فواشنطن لا ترى حاجة ملحة لمبعوث جديد، وتعبر أن السيطرة على الوضع الليبي يمكن أن يتم عبر ستيفاني خوري القائمة بأعمال المبعوث.
يوضح النهج الأمريكي رغبة واضحة في الحفاظ على السيطرة من خلال استراتيجية دبلوماسية تفضل الشخصيات المؤقتة التي تتوافق مع مصالحها، فستيفاني خوري تجسد نمطا سياسيا واستمرارالما حددته قبلها الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز، التي شغلت منصب القائم بأعمال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا في عام 2020 بعد استقالة غسان سلامة،فخلال فترة ولايتها، نجحت في التوسط في اتفاقيات رئيسية، وأبرزها وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020 وتشكيل سلطة تنفيذية مؤقتة في مارس 2021، وحظيت هذه الإنجازات بإشادة كبيرة، واعتُبرت قدرتها على التنقل في البيئة السياسية المعقدة في ليبيا شهادة على مهاراتها الدبلوماسية.
لكن فترة ولايتها كانت أيضا مجالا لخلافات أيضا، حيث تم تأجيل انتخابات ديسمبر 2021 التي كان من المفترض أن تكون تتويجا للعملية السياسية التي بدأت بها، بسبب النزاعات غير المحلولة حول قوانين الانتخابات، فويليامز ركزت بشكل كبير على الحوار بين عدد محدود من الفصائل مع إهمال الأصوات الناقدة الأخرى داخل المشهد السياسي الليبي المنقسم، كما أنها كمبعوثة مؤقتة للولايات المتحدة سيطرت على عملية السلام دون الحاجة إلى الضغط من أجل شخصية أكثر ديمومة، ويبدو أن هذه الاستراتيجية تتكرر الآن، حيث تقود ستيفاني خوري المهمة مؤقتا بينما تؤخر الولايات المتحدة تعيين مبعوث جديد غير أمريكي للأمم المتحدة.
الموقف الأمريكي من مبعوث جديد
هناك عدة أسباب وراء عدم رغبة الولايات المتحدة في تعيين مبعوث جديد للأمم المتحدة إلى ليبيا، فبالدرجة الأولى هناك اعتقاد في واشنطن أن البعثة الحالية، وخاصة تحت قيادة ستيفاني خوري، كافية للحفاظ على الاستقرار دون الالتزام بتعيين طويل الأجل، ونظرا للطبيعة المعقدة للسياسة الليبية فإن المبعوث المؤقت يوفر للإدارة الأمريكية المزيد من المرونة، ويسمح لها بممارسة النفوذ دون الحاجة إلى شخصية ثابتة ودائمة لا تتوافق مع المصالح الأميركية.
من جانب آخر تنظر الولايات المتحدة إلى ليبيا من خلال عدسة الاعتبارات الجيوسياسية الأوسع، فهي تفترض أن روسيا توسع نفوذها إضافة لدولة أخرى منافسة، وضمن هذا الشرط السياسي تفضل السياسة الأمريكية الاحتفاظ بنفوذها على ليبيا من خلال شخصيات دبلوماسية مثل خوري، بدلا من المخاطرة بمبعوث جديد يحمل معه احتمالات عدم التوافق مع الأهداف الاستراتيجية الأميركية.
في الوقت نفسه فإن الإدارة الأمريكية لديها شكوكها بشأن الاستقرار السياسي في ليبيا، وتعتبر أن السير نحو الانتخابات في ليبيا مازال ضمن دائرة خطرة وهناك احتمالات بأن تسير الأمور بشكل لا يتوافق مع مصالحها، فالتوازن السياسي الليبي يبدو مجهولا بالنسبة لواشنطن، والأطراف الليبية المتناقضة مع مصالحها في الشرق تبدو أكثر قدرة على رسم سياسات متوازنة، وفي المقابل فإن الجهود السابقة أظهرت صعوبة فيتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، وذلك مع وجود فصائل عسكرية تملك علاقات قوية مع الشخصيات السياسية المتمسكة بالسلطة، وهذا الأمر يدفع الولايات المتحدة للتتمسك بموقفها في التعامل مع الأزمة الليبية عبر إبقاء شخصية مؤقتة في منصبها، حيث أنها قادرة على إدارة الوضع الراهن بشكل أفضل دون الإفراط في الالتزام بعملية يمكن أن تواجه انتكاسات تضر بمصالحها.
دعوات الدول الإفريقية
تبدو الولايات المتحدة راضية عن الترتيب الحالي، وذلك بعكس الدول الإفريقية داخل مجلس الأمن التي تتحدث بشكل صريح عن ضرورة تعيين مبعوث جديد، حيث أوضحت هذه الدول، التي تشمل الجزائر وموزمبيق وسيراليون، أن الشلل السياسي في ليبيا يرجع إلى غياب ممثل رسمي للأمم المتحدة يمكنه التوسط في المفاوضات بين الفصائل المتحاربة في البلاد، فهم يعربون عن مخاوف حقيقية من أن فشل العملية السياسية سيجعل من الأزمة الليبية حالة تؤثر على الاستقرار الإقليمي.
تنظر الدول الإفريقية إلى تفاصيل النزاع ضمن مؤشرات خطرة تدفع للتصعيد المفاجئ، فاستمرار النزاعات حول عائدات النفط والبنك المركزي ومؤسسات رئيسية أخرى، هي في النهاية دلائل على انهيارات سياسية تدفع الوضع للتدهور في ظل غياب مبعوث للأمم المتحدة لقيادة عملية السلام، وتعرض مستقبل ليبيا للخطر، فضلاً عن استقرار المنطقة الأوسع، ورغم هذه المخاطر فإن الولايات المتحدة والقوى الرئيسية الأخرى في مجلس الأمن لم تستجب بعد للمطالب التي قدمتها تلك الدول، فتعيين مبعوث جديد يتطلب إجماع المجلس، ومع عدم دفع الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات فورية، فإن الزخم اللازم لإحداث تغيير يبقى ضئيلا.
إن التأخير في تعيين مبعوث جديد للأمم المتحدة إلى ليبيا يؤكد على تعقيدات الدبلوماسية الدولية والمصالح الاستراتيجية التي تلعب دوراً في هذا السياق، وبالنسبة للولايات المتحدة، يبدو أن الحفاظ على مصالحها من خلال شخصيات مؤقتة مثل ستيفاني خوري هو النهج المفضل، مما يسمح لها بالتأثير على الوضع دون الالتزام بمبعوث يحمل معه جدية والتزاما بالعملية السياسية.
تحملهذه الاستراتيجية مخاطر كبيرة، فمع استمرار الجمود السياسي في ليبيا، تظل البلاد عُرضة لمزيد من عدم الاستقرار، مع التصعيد الكبيرة التي تصل لحد المواجهات المسلحة، وبالنسبة للدول الإفريقية التي تملك مصلحة حقيقية في استقرار الوضع الليبي، فإن غياب مبعوث أممي هو مخاطرة بالأمر الإقليمي عبر إبقاء ليبيا غارقة في أزمة تتعمق كل يوم.
بقلم مازن بلال
إحاطة لخوري مرتقبة أمام مجلس الأمن حول التطورات في ليبيا