05 ديسمبر 2025

لم تكن ليبيا بحاجة إلى مزيد من الفوضى كي تصبح مسرحاً لعبث دولي جديد، لكن التقارير عن دخول طائرات مسيّرة أوكرانية إلى طرابلس ومحيطها كشفت عن مستوى صادم من الاستهتار بمصير هذا البلد.

عملياً كانت المعلومات التي تتسرب عن هذا الأمر يتم النظر إليها كـ”بروباغندا”، لكن سرعان ما تبيّن أن لها جذوراً واقعية، ومدعومة بشهادات مسؤولين ليبيين ومصادر أجنبية موثوقة.

وتحولت ليبيا، المنهكة بانقساماتها الداخلية وميليشياتها المتناحرة في الغرب الليبي، إلى ساحة لتصريف فائض الأسلحة الأوكرانية، في مشهد يفضح ليس فقط عن فساد الحكومة في طرابلس، بل أيضاً ازدواجية الغرب الذي يموّل أوكرانيا بلا حساب، ثم يتعامى عن تسريب أسلحتها إلى واحدة من أكثر البيئات هشاشة في العالم.

ليبيا كسوق للسلاح الأوكراني في ظل صمت غربي

ليبيا المنهكة بالحروب والانقسامات لم تعد مجرد ساحة صراع داخلي بين الميليشيات والسلطات المتنافسة، بل تحولت إلى سوق مفتوح لتصريف الأسلحة القادمة من جبهات بعيدة، وعلى رأسها أوكرانيا، فالتقارير الأخيرة لا تتحدث عن تهريب ذخائر تقليدية أو أسلحة خفيفة، بل عن إدخال أكثر من 20 طائرة مسيّرة حديثة، قتالية واستطلاعية، وصلت إلى طرابلس ومحيطها، وبرفقة ما لا يقل عن 12 خبيراً أوكرانياً لتدريب المجموعات المحلية على تشغيلها.

هذه المعطيات تضع ليبيا في قلب فضيحة دولية مزدوجة؛ فتُظهر كيف أن البلاد تحولت إلى نقطة استقطاب لتجارة السلاح غير المشروعة، حيث تختلط المصالح المحلية بالصفقات الخارجية.

ومن جانب آخر تفضح التناقض في صورة أوكرانيا التي يقدمها الغرب كـ”ضحية” تحتاج إلى كل أشكال المساعدة، بينما أسلحتها تُهرّب إلى واحدة من أكثر البيئات هشاشة في العالم،فالغرب، الذي ضخ مئات مليارات الدولارات لدعم كييف بالسلاح والمال والغطاء السياسي، يلتزم الصمت حيال هذا الانكشاف، وهو مؤشر على وجود ازدواجية فجة في المعايير.

ولا يبدو أن القضية تتعلق فقط بأوكرانيا المتهمة بالاتجار بالسلاح، بل بليبيا نفسها التي تتحول إلى مسرح يُدار فيه صراع الآخرين على حساب استقرارها، فيما يظل الغرب طرفاً متواطئاً بالصمت إن لم يكن بالفعل.

ليبيا: بلد منهك ومسؤولون متورطون

لا يمكن إنكار مسؤولية الطبقة السياسية الليبية، وعلى رأسها عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، فالتحقيقات التي أعلن عنها النائب العام الليبي، الصديق الصور، بشأن تهريب هذه المسيّرات، سرعان ما أظهرت خيوطاً تربط بين مكتب الدبيبة وبين عمليات إدخال هذه الأسلحة عبر مسارات معقدة شملت الجزائر وأذربيجان.

السؤال أساسي: هل يمكن أن تُجرى محاسبة حقيقية في بلد كليبيا؟ التجربة تقول إن الفساد البنيوي والمحاصصة بين الميليشيات تجعل من الصعب تصور أن تصل يد العدالة إلى رأس السلطة التنفيذية،ولكن مجرد فتح التحقيق يُظهر أن ثمة أصواتاً داخل مؤسسات الدولة لم تعد قادرة على الصمت، ومع ذلك، يبقى الاحتمال الأكبر أن يتم التعتيم على القضية أو تحويلها إلى ورقة مساومة سياسية بين الفرقاء.

الغرب: ازدواجية معايير صادمة

الغرب، الداعم الأكبر لكييف، يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، فهل يعقل أن تفتح واشنطن أو بروكسل تحقيقاً في تورط أوكرانيا بتسليح ميليشيات ليبية أو مجموعات متطرفة؟ تاريخ التدخلات الغربية في المنطقة، من العراق إلى سوريا وليبيا نفسها، يجعل من الصعب توقع أي مساءلة جدية، بل إن الموقف الأرجح سيكون محاولة دفن هذه الفضيحة إعلامياً واتهام موسكو بالتلاعب بالمعلومات.

غير أن صمت الغرب، إذا استمر، سيؤدي إلى نتائج عكسية، لأنه سيُظهر بجلاء ازدواجية المعايير حيث يتم محاسبة دول مثل إيران أو كوريا الشمالية على أي خرق لحظر السلاح، وفي المقابل التغاضي عن تصرفات أوكرانيا لمجرد أنها حليف ظرفي، ومن جانب آخر فإن الصمت الغربي يمنح خصومه من روسيا إلى الصين، قرائن سياسية لكشف الدعم الغربي لكييف، ووضعه في موقع الصحيح كراع لدولة متورطة في الفساد والتصدير غير المشروع للأسلحة.

خطر وصول المسيّرات إلى أيدي المتطرفين

ما يزيد الوضع خطورة هو أن ليبيا ليست دولة مستقرة بجيش نظامي يمكنه السيطرة على الحدود والمطارات، فهي فضاء مفتوح للشبكات المسلحة، سواء كانت ميليشيات محلية في الغرب الليبي أو جماعات متطرفة عابرة للحدود، واحتمال وصول هذه المسيّرات إلى أيدي جماعات مرتبطة بالقاعدة أو داعش ليس مستبعداً، عندها لن يكون الخطر مقتصراً على ليبيا وحدها، بل سيمتد إلى دول الجوار في شمال إفريقيا والساحل، وربما إلى أوروبا التي تعاني أصلاً من أزمات هجرة وتهديدات أمنية.

بين القانون والسياسة: هل من محاسبة ممكنة؟

من الناحية القانونية، يملك النائب العام الليبي، الصديق الصور، الصلاحية لملاحقة أي طرف متورط في إدخال هذه الأسلحة، حتى لو كان رئيس الحكومة نفسه، لكن واقع الحال يضعه أمام سؤال صعب؛ فهل يملك القضاء الليبي الاستقلالية الكافية لمواجهة سلطة مسلحة بميليشيات وموارد مالية ضخمة؟

في المقابل، هل يمكن أن يتحرك القضاء الدولي، سواء عبر الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية؟ هنا أيضاً تتدخل السياسة، فالدول الكبرى التي تسيطر على هذه المؤسسات هي نفسها المنخرطة في دعم أوكرانيا، ومن غير المرجح أن تسمح بفتح ملف محرج يمكن أن يُستخدم ضدها في الرأي العام العالمي.

ليبيا كمرآة للعبث الدولي

إن قصة المسيّرات الأوكرانية في ليبيا، سواء ثبتت تفاصيلها كاملة أو جرى التعتيم عليها، تكشف عن معادلة دولية مأزومة، فهناك دولة تحارب على الجبهة الشرقية لأوروبا بادعاء “غزو روسي” مزعوم، لكنها في الوقت نفسه تتحول إلى مصدر سلاح في الغرب؛ وفي المقابل هناك طبقة سياسية ليبية غارقة في الفساد، لا تتردد في شراء أي سلاح مهما كان مصدره لتثبيت سلطتها، أما الغرب، فيرفع شعارات القانون الدولي والشفافية حين تخدم مصالحه، لكنه يغض الطرف عنها عندما تهدد نفوذه أو حلفاءه.

في النهاية، تبقى الأسئلة مفتوحة فهل سنشهد دعوى قضائية من الصديق الصور ضد عبد الحميد الدبيبة؟ أم أن المنظومة السياسية ستبتلع الملف؟ وهل سيجرؤ الغرب على محاسبة أوكرانيا، أم أن ازدواجية المعايير ستنتصر مجدداً؟.

هذه القضية ستظل شاهدا على حجم الفوضى الأخلاقية والسياسية التي تحكم الصراعات اليوم، حيث تختلط الحرب العادلة بالتجارة القذرة، وتصبح حياة الشعوب مجرد تفصيل ثانوي في لعبة أمم بلا قواعد.

بقلم: نضال الخضري

مستشار ترامب: المرحلة الانتقالية في ليبيا طالت ولا بديل عن الانتخابات

اقرأ المزيد