يشكل توقيف أسامة المصري نجيم، الذي شغل منصباً مهماً في جهاز الشرطة القضائية الليبية، محطة حاسمة في مسار العدالة داخل ليبيا، فهي تتجاوز ملاحقة مسؤول أمني متهم بانتهاكات لتطرح سؤالا ًحول قدرة الدولة على إخضاع رموزها الأمنية للمحاسبة دون استثناء.
تكشف هذه القضية عن التناقض الذي يطبع المشهد الليبي الراهن، بين خطاب رسمي يتحدث عن بناء مؤسسات العدالة وسيادة القانون، وواقع تخشى فيه السلطات أن تتحول المساءلة إلى أداة سياسية لتصفية الخصوم، فملف نجيم هو مقياس حقيقي لمدى جدية ليبيا في مواجهة ماضيها والانتصار لقيم العدالة لا لمعادلات القوة.

من هو أسامة نجيم وما الاتهامات الموجهة إليه
أسامة المصري نجيم، المعروف أيضاً باسم أسامة الماسري، يعد من الشخصيات الأمنية النافذة التي تولت مسؤوليات عليا في جهاز الشرطة القضائية الليبية، وارتبط اسمه بسجن معيتيقة في طرابلس، أحد أكثر أماكن الاحتجاز إثارة للجدل في البلاد.
تتهمه المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، وتشير وثائق الاتهام إلى أنه كان يشرف بشكل مباشر على عمليات الاحتجاز والمعاملة القاسية داخل السجن، بما يجعل مسؤوليته القيادية جزءاً من منظومة الانتهاكات الممنهجة التي شهدتها البلاد خلال سنوات الصراع.
لكن اعتقال أسامة المصري نجيم لا يمكن قراءته فقط كخطوة قضائية أو كجزء من مسار المحاسبة على الانتهاكات، بل حلقة ضمن صراع نفوذ متجدد داخل المنظومة الأمنية في طرابلس، فنجيم لم يكن مجرد منفّذ لسياسات قمعية، بل أحد رموز القوة داخل شبكة السجون والتهريب والهجرة التي تربط بين أجهزة الدولة ومراكز النفوذ غير الرسمية، وعلاقته الوظيفية والمكانية بقوة الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارا تعطي مؤشرا واضحا على أن القرار بتوقيفه لم يكن عابرا، بل جزء من عملية إعادة توزيع للأدوار وتصفية الحسابات داخل البنية الأمنية المعقدة في العاصمة.
ويمكن النظر إلى هذه الخطوة على أنها رسالة مزدوجة، فمن جهة، موجّهة إلى المجتمع الدولي لتأكيد أن هناك إرادة في إظهار المساءلة، ومن جهة أخرى إلى الداخل الليبي، مفادها أنه حتى أصحاب النفوذ الواسع لم يعودوا بمنأى عن التحركات أو التبدلات السياسية، لكن خلف هذه الصورة الرسمية، تبقى الأسئلة الجوهرية مفتوحة أمام أمر باعتقال نجيم؟ ومن يدير هذا الملف فعلياً؟ وما المصالح التي كانت ترتبط ببقائه أو بإزاحته؟ وكيف تتقاطع ملفات الهجرة والسجون والتهريب في خلفية هذا القرار؟

مأزق تنفيذ مذكرة التوقيف الدولية
في مطلع عام 2025 صدر أمر توقيف دولي بحق نجيم، وتم القبض عليه في مدينة تورينو الإيطالية بعد إدراجه على قوائم المحكمة الجنائية الدولية، غير أن حادثة اعتقاله تحولت سريعاً إلى أزمة دبلوماسية بعدما أفرجت السلطات الإيطالية عنه بشكل مفاجئ وأعادته إلى ليبيا، متذرعة بعيوب تقنية في مذكرة التوقيف.
هذا الإفراج أثار موجة واسعة من الانتقادات، إذ اعتبرته منظمات حقوقية إخلالاً بالتزامات دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية، ورأى مراقبون أن الواقعة كشفت هشاشة منظومة التعاون الدولي في تنفيذ العدالة، وأن المصالح السياسية والأمنية بين روما وطرابلس طغت على التزامات القانون الدولي.
في المقابل تطرح قضية تسليم نجيم المحتملة لإيطاليا بعد اعتقاله أسئلة لا تقل حساسية، فروما كانت على علم مسبق بتوقيفه، وفق ما أشارت إليه تقارير دبلوماسية وتسريبات إعلامية، وهو ما جعل بعض المراقبين يرون أن عملية التسليم – إن تمت – ستكون هدية سياسية ثمينة من عبد الحميد الدبيبة إلى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في سياق تقاربٍ متزايد بين طرابلس وروما يقوم على مقايضة ملفي الهجرة والنفط بالأمن والسيطرة على الميليشيات، فميلوني التي تواجه ضغوطاً داخلية متزايدة بسبب ملف الهجرة غير النظامية، تجد في تسلّم شخصية مثيرة للجدل مثل نجيم “إنجازاً” يُسوّق للرأي العام الإيطالي على أنه دليل على جدية التعاون الليبي – الأوروبي في “مكافحة الجريمة والإرهاب”.

التوقيف في طرابلس: خطوة رمزية أم بداية مسار جديد
إعلان السلطات الليبية توقيف نجيم مجدداً في طرابلس مثّل حدثاً لافتاً في سياق التحولات السياسية والقضائية التي تشهدها البلاد، فجاءت الخطوة في وقت تسعى فيه الحكومة إلى ترميم مؤسسات العدالة وإظهار التزامها بمحاسبة المتورطين في الانتهاكات، غير أن هذا التوقيف لا يخلو من أبعاد سياسية.
في بيئة أمنية هشة تتداخل فيها المصالح بين الفصائل المسلحة والسلطات الرسمية، يطرح تساؤل جوهري: هل تمثل القضية إرادة حقيقية لتكريس العدالة، أم أنها محاولة لامتصاص الضغوط الدولية وإعادة ترتيب التوازنات الداخلية؟
العديد من المراقبين يرون أن نجاح التحقيقات في أن تكون شفافة ومستقلة سيكون بمثابة مؤشر على مستقبل العدالة الليبية، أما إذا اقتصرت القضية على احتجاز شكلي أو تسوية سياسية، فستكون النتيجة تعزيزاً لثقافة الإفلات من العقاب التي عانت منها البلاد طويلاً.

ما وراء القضية: ليبيا بين الداخل والخارج
تسلط قضية نجيم الضوء على تعقيدات العلاقة بين ليبيا والعدالة الدولية، فمن جهة، تسعى طرابلس إلى إثبات قدرتها على إدارة ملفاتها القضائية دون تدخل خارجي، ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطاً متزايدة من المنظمات الدولية لتسليم المتهمين بجرائم جسيمة إلى المحكمة الجنائية الدولية.
هذه المعضلة تعكس التوتر القائم بين مفهوم السيادة الوطنية ومتطلبات العدالة العالمية، فبينما تحاول ليبيا أن تبني مؤسساتها القضائية وفقاً لرؤيتها الداخلية، يصر المجتمع الدولي على أن الجرائم التي تمس الإنسانية لا يمكن أن تخضع لحسابات السياسة أو للمساومات المحلية.

أبعاد داخلية ومخاطر التسييس
في الداخل، ينقسم الرأي العام الليبي حول توقيف نجيم. فهناك من يرى فيه خطوة إيجابية على طريق إصلاح منظومة العدالة، بينما يعتبره آخرون محاولة لتصفية جناح أمني لصالح آخر في خضم صراع النفوذ بين الأجهزة داخل حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية.
ولأن القضاء الليبي ما زال يعاني من ضعف البنية القانونية ومن تدخلات سياسية وأمنية، فإن المخاوف من تسييس القضية تبقى حاضرة، فالتجارب السابقة أظهرت أن ملفات الانتهاكات غالباً ما تُفتح وتُغلق وفقاً للتوازنات، لا وفقا لمقتضيات العدالة، وفي حال تكرار هذا السيناريو، فإن الرسالة التي ستخرج بها ليبيا إلى العالم هي أن الدولة ما زالت عاجزة عن محاسبة المتورطين من داخلها.

العدالة كشرط لإعادة بناء الدولة
لا يمكن فصل قضية أسامة نجيم عن السياق الأوسع لبناء الدولة الليبية، فإرساء العدالة هو الشرط الأول لاستعادة الثقة بين المواطن والمؤسسة، ولإعادة الاعتبار لضحايا الانتهاكات الذين ظلوا لسنوات بلا إنصاف.
إن محاكمة عادلة وشفافة لا تمثل انتقاماً، بل خطوة ضرورية لترسيخ مبدأ سيادة القانون.
إذا تمكنت ليبيا من إدارة هذا الملف وفق معايير العدالة المستقلة، فسيكون ذلك بداية حقيقية للخروج من دوامة الإفلات من العقاب، أما إذا أُغلقت القضية أو تم الالتفاف عليها، فستكون النتيجة تكريساً لثقافة الخوف والتسييس التي أضعفت الدولة منذ سقوط النظام السابق.
قضية أسامة المصري نجيم ليست مجرد فصل في سجل انتهاكات ليبيا، بل اختبار لروح الدولة وقدرتها على مواجهة ماضيها، فبين ضغوط الخارج وحسابات الداخل، تقف العدالة على مفترق طرق، فإما أن تتحول إلى قاعدة تضمن المساواة أمام القانون، أو تبقى أداة بيد القوى المتصارعة.
الكرة اليوم في ملعب القضاء الليبي، والمجتمع الدولي يراقب، وإذا أرادت ليبيا أن تبني شرعية حقيقية في عيون مواطنيها والعالم، فعليها أن تثبت أن العدالة ليست شعاراً سياسياً، بل التزاماً لا يعلو عليه أي نفوذ أو مصلحة.
بقلم نضال الخضري
أسد يهرب من عربة عسكرية في شوارع طرابلس (فيديو)
