طردُ وفدٍ أوروبيٍّ رفيع من مطار بنينا في بنغازي لم يكن مجرد “حدثاً” عابرا بل لحظة كاشفة تفرض سؤالاً قديماً تتفاداه أوروبا منذ سنوات: من يحكم ليبيا فعلاً؟ ففي عالمٍ مثقلٍ بالازدواجية السياسية، لا شيء يكشف الخلل أكثر من أزمة دبلوماسية تنفجر بهذا الشكل العلني.
عندما حطّت طائرة الموفد الأوروبي المفوض ماغنوس برونر وثلاثة وزراء داخلية من إيطاليا، اليونان، ومالطا في مطار بنينا، كانوا يظنون أن اللقاء مع المشير خليفة حفتر سيكون إجراء روتينياً، لكن المشير حفتر رفض استقبالهم إلا بمشاركة الحكومة التي يترأسها أسامة حماد، المعيّنة من مجلس النواب، وعندما رفض الوفد انهار الاجتماع ، وكان والرد واضحاً: “أنتم غير مرغوب فيكم. غادروا الآن”.

انقلاب دبلوماسي صامت
قبل يوم واحد فقط من هذا الحدث، أعلنت حكومة حماد خمسة ضوابط لتنظيم دخول وتنقل الدبلوماسيين والبعثات الدولية في مناطقها، ونظمت قواعد الاتصال الدبلوماسي، فلا زيارات دون تنسيق، ولا اجتماعات دون إذن، ولا تعامل مباشر مع أي جهة حكومية أخرى، فالسيادة ليست سلعة تفاوض.
هذه التعليمات كانت اختباراً لإرادة المجتمع الدولي، وجاء الوفد الأوروبي، عن غير قصد، ليُفشل الامتحان، فتجاهل القواعد، وبعد أن قابل حكومة الدبيبة في طرابلس، ثم دخل الشرق بلا إذن من حكومة حماد، فتم الطلب منه بالمغادرة.
الموقف الأوروبي بدا مربكاً، فسفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا، نيكولا أورلاندو، الذي رافق الوفد، عبّر عن مخاوف بروتوكولية، وفضّل الابتعاد عن الوزراء التابعين لحكومة حماد أما المفوض الأوروبي ماغنوس برونر، فاكتفى بتصريحات مجتزأة عبر منصة “إكس”، مشيدا ًبلقاءاته في طرابلس ومتجاهلاً ما حدث في بنغازي.
لكن صحيفة “بوليتيكو” الأميركية وصفت ما جرى بـ”الحادثة الدبلوماسية” وكشفت كواليسها، فالوفد كان في صالة كبار الزوار مستعداً للقاء حفتر فقط، لكن المشير اشترط مشاركة حكومة حماد، وهو ما رفضه برونر، وكانت النتيجة طرد جماعي، وإعلان رسمي من حماد بأنهم “تجاوزوا الأعراف وخالفوا القوانين”.

من الشرعي؟ الغرب أمام مرآته
جوهر المشكلة، كما صاغها أسامة حماد وأيده فيها حفتر، بسيط، لكنه محرج للغرب؛ فمن يملك السلطة فعلاً في ليبيا؟ هل هي حكومة الدبيبة منتهية الولاية في طرابلس، التي لا تسيطر على أكثر من شارع وآلية دفع رواتب، لكنها تملك “ختم الأمم المتحدة”؟ أم هي حكومة حماد، التي تحكم الأرض، وتُعيّن من سلطة تشريعية معترف بها محلياً.
الشعار الذي يردّده الغرب كثيراً حول “حل ليبي للمشكلة الليبية” سقط في الاختبار الأخير وظهر التناقض السياسي، فبينما تطالب بروكسل باحترام السيادة الليبية، ترفض في الوقت نفسه التعامل مع الحكومة التي تمارس هذه السيادة فعلياً على الأرض.

أثينا: البراغماتية تطرق الأبواب
جريدة “كاثمريني” اليونانية كانت أكثر صراحة من نظرائها في أوروبا، دعت حكومة ميتسوتاكيس إلى نهج جديد في التعامل مع ليبيا، واقترحت اجتماعاً ثلاثياً مع مصر وحكومة حماد، وآخر مع إيطاليا وطرابلس، وهذه الدعوة توضح براغماتيةٌ سياسية فرضها الواقع الجديد.
اليونان، التي تخشى من تمدد النفوذ التركي عبر اتفاقيات بحرية مع حكومة الدبيبة، وترى في بنغازي شريكاً محتملاً يمكن التعامل معه بواقعية، ومع تصاعد الهجرة غير الشرعية نحو جزرها، فإن حكومة ميتسوتاكيس بدأت تبحث عن شركاء فعليين، لا رمزيين.
بعد الحادثة، علّقت أثينا جلسات طلبات اللجوء من المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا، وهدّدت بإجراءات أكثر صرامة، كما ناقش رئيس الوزراء إنشاء مراكز احتجاز مغلقة في جزيرة كريت، ولكن من دون شريك ليبي حقيقي، كل هذه الإجراءات ستكون مجرد سباحة ضد التيار.

حكومة حماد تمتحن أوروبا
لم يكن هذا الموقف المفاجئ ليحدث دون دعم المشير حفتر، والرسالة كانت منسّقة ومدروسة؛ فلا اعترافات انتقائية، ولا علاقات تتجاوز السلطة الفعلية، وحفتر لم يتراجع، ولم يسع إلى تسوية بل وقف خلف حكومة حماد، وفرض معادلة جديدة؛ فالاعتراف لا يُمنح مجاناً، بل يُنتزع من الميدان.
وبينما كانت طرابلس ترحّب بالوفد الأوروبي، كانت بنغازي تطرده، في مشهد يعكس حجم الانقسام، لكنه يضع الغرب أمام خيار لا يمكن تأجيله.
الحادثة كشفت أن سياسة أوروبا تجاه ليبيا بلا بوصلة، واعتادت بروكسل على التفاهم مع الدبيبة في طرابلس، رغم فشل حكومته في السيطرة أو فرض الأمن، أما بنغازي، فظلت تُعامل كأمر واقع مزعج، لا يُعترف به، لكن يُؤخذ بالحسبان.
المعادلة السابقة لم تعد ممكنة، فحكومة حماد ليست هامشاً سياسياً، ووضعت خطوطا حمراء، وبدأت تطبقها، السؤال الآن: هل تتعامل أوروبا مع الواقع، أم تستمر في الرهان على حكومة فقدت السيطرة منذ سنوات؟
في بيانه، قال أسامة حماد بوضوح: “لن نسمح بأي نشاط دبلوماسي دون تنسيق واحترام لسيادة الدولة الليبية”، وهو إعلان عن نهاية مرحلة، وبداية أخرى.
بقلم مازن بلال
الشراكة الاستراتيجية بين ليبيا وروسيا في مجال الطاقة
