تعود قضية الهجرة إلى الواجهة في ليبيا، مع تأكيدات رئيس الوزراء المنتهية ولايته عبد الحميد الدبيبة رفضه أن تصبح ليبيا موطناً للمهاجرين، وقوبلت تأكيداته بالشك مع انتشار تكهنات عن موافقة حكومته توطين الفلسطينيين وفق خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
مخاوف الليبيين بشأن الهجرة والتوطين تستند إلى وقائع واحصائيات تؤكد أن هذه القضية يمكن أن تؤثر على سيادة البلاد وأمنها واستقرارها الديموغرافي، فتقديرات وزارة الداخلية في حكومة الدبيبة تتحدث عن ما يقرب من ثلاثة ملايين مهاجر في ليبيا، دخل العديد منهم إلى البلاد بطرق غير قانونية؛ الأمر الذي يجعل الهجرة شأناً خطيراً في ظل الوضع السياسي الذي تعيشه ليبيا، فالانقسام السياسي وعجم القدرة على إجراء الانتخابات يجعل التحكم في قضية المهاجرين غير الشرعيين مسألة معقدة.
ليبيا عند مفترق الطرق
دخلت ليبيا بموقعها الاستراتيجي في عمق النقاشات الدولية حول مسألة الهجرة، فهي ليست فقط نقطة عبور رئيسية للمهاجرين الأفارقة الساعين للوصول إلى أوروبا، لكنها تعاني أيضاً من ضعف الرقابة على الحدود وعدم الاستقرار السياسي منذ الإطاحة بمعمر القذافي في عام 2011 ما أدى لتفاقم الأزمة، واستغلت شبكات التهريب والاتجار بالبشر الحدود البرية الطويلة لليبيا، والفوضى في المناطق الحدودية، لتهريب المهاجرين بشكل مستمر، ما زاد من الضغط على الأجهزة الأمنية الليبية.
وتشير الأحداث الأخيرة، مثل ضبط 49 مهاجراً غير شرعي في منطقة الحمادة الحمراء الصحراوية منتصف مارس 2025 إلى خطورة الأزمة، حيث كثفت وزارة الداخلية حملاتها الأمنية ضد تجمعات المهاجرين في مدن مثل صبراتة، وتم اكتشاف مساكن غير قانونية لهم، وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات تؤكد التزام الحكومة بمكافحة الهجرة غير النظامية، إلا أنها تثير أيضاً مخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي ظل تزايد القلق الشعبي من مسألة الهجرة، فإن الشكوك لدى الشارع الليبي والنخب السياسية تزداد بشأن تعامل الحكومة مع هذا الملف، كما ظهرت اتهامات لبعض المنظمات الدولية والشبكات العالمية بدفع “أجندة توطين” ستغير التركيبة الديموغرافية لليبيا، ولم يفلح نفي الحكومة لنية توطين المهاجرين في تبديد الشكوك، حيث تواجه حكومة الدبيبة اتهامات بعدم الشفافية في تعاملها مع المنظمة الدولية للهجرة والجهات الأجنبية، كما أثار تزايد أعداد المهاجرين في سوق العمل الليبي مخاوف بشأن البطالة التي دفعت معارضي الهجرة للتحرك من جديد.
التداعيات الأمنية وإجراءات ضبط الحدود
لا يمكن التقليل من الأبعاد الأمنية لأزمة الهجرة، فوزير الداخلية المكلف، عماد الطرابلسي، وصف الهجرة غير الشرعية بأنها “تهديد للأمن القومي”، وتشير التقارير إلى ترحيل أكثر من 52 ألف مهاجر غير قانوني منذ عام 2023، في مؤشر على النهج الصارم الذي تتبعه السلطات، ومع ذلك، ترددت مزاعم بأن بعض العناصر داخل الأجهزة الأمنية تسهل عمليات التهريب، وفي المقابل، اتهمت الحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب، بقيادة أسامة حماد، حكومة الدبيبة باستخدام ملف الهجرة كورقة مساومة سياسية.
وزادت التوترات بين الشرق والغرب الليبيين من تعقيد جهود تبني سياسة وطنية موحدة للهجرة، حيث طالب الدبيبة الاتحاد الأوروبي بمزيد من الدعم لمراقبة الحدود، مشيراً إلى أن ليبيا لا يمكنها تحمل العبء وحدها، لكن أوروبا ما تزال حذرة من التورط العميق في الشؤون الليبية نظراً لحالة عدم الاستقرار السياسي المستمرة، ووسط هذه التطورات أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها إزاء “خطاب الكراهية” و”حملات المعلومات المضللة” ضد المهاجرين، وحذرت من أن تصاعد الخطاب المعادي للأجانب يؤدي إلى أعمال عنف ضد المهاجرين.
وفي الوقت نفسه، تستمر عمليات إعادة المهاجرين الذين يتم اعتراضهم في البحر المتوسط إلى ليبيا، حيث سجلت المنظمة الدولية للهجرة إعادة 4,767 مهاجراً، بينهم نساء وأطفال، منذ بداية عام 2025، وأثارت هذه الإعادات القسرية انتقادات دولية، حيث تعتبر الأمم المتحدة ليبيا “وجهة غير آمنة” للمهاجرين بسبب الظروف القاسية في مراكز الاحتجاز.
ويضيف الواقع الاقتصادي في ليبيا بعداً آخر للأزمة، فبينما تعتمد بعض القطاعات، مثل الزراعة والبناء، على العمالة الوافدة، هناك مخاوف من أن يؤدي تدفق المهاجرين إلى انخفاض الأجور وارتفاع معدلات البطالة بين الليبيين، كما أن القلق بشأن التأثير الديموغرافي المحتمل للهجرة غير النظامية زاد من تنامي النزعة القومية، وعبر قادة سياسيون، مثل خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة، عن رفضهم القاطع لأي محاولة لتوطين المهاجرين، مؤكدين أن ليبيا لا تملك البنية التحتية لاستيعابهم، كما أبدت البلديات المحلية اعتراضها، مطالبة بوضع سياسات واضحة لتنظيم العمالة الأجنبية دون الإضرار باليد العاملة المحلية.
مبادرة ترامب وتداعياتها
على المستوى أوسع، أثارت تقارير تتحدث بأن حكومة الدبيبة ربما وافقت على مبادرة أمريكية لإعادة توطين الفلسطينيين في ليبيا موجة من الجدل، ورغم نفي الحكومة لهذه المزاعم، إلا أن العديد من الليبيين لا يزالون غير مقتنعين، فمقترحات إدارة ترامب بشأن توطين سكان غزة التي شهدت رفضاً عربياً واسعاً، ستجعل من أي إشارة إلى تورط ليبيا في مثل هذه الخطة مسألة خطيرة تؤدي إلى مزيد من الاضطرابات الداخلية، فأزمة الهجرة تمثل في ليبيا تحدياً معقداً يمس الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي والعلاقات الدولية، وإدخال القضية الفلسطينية إليها عبر خطة ترامب سيزيد من خطورة الوضع، ورغم تعهد الدبيبة بعدم السماح بجعل ليبيا مركزاً لتوطين المهاجرين، فإن مصداقية الحكومة ستُختبر بناءً على أفعالها وليس تصريحاتها.
في ظل تفاقم أزمة المهاجرين تحتاج ليبيا إلى استراتيجية شاملة تجمع بين تعزيز أمن الحدود، والتعاون الإقليمي، ووضع سياسات تنظيمية واضحة للعمالة الوافدة، ومن دون خطة متكاملة، ستبقى البلاد عرضة للمزيد من الانقسامات الداخلية والتوترات الجيوسياسية التي قد تزيد من تعقيد المشهد السياسي والأمني.
بقلم: نضال الخضري