في وقت تعاني فيه القارة الإفريقية من أزمة أمن غذائي حادة، أعلن وزير الزراعة الروسي ديمتري باتروشيف، عن استكمال روسيا لمبادرتها بشحن 200 ألف طن من الحبوب المجانية إلى ست دول إفريقية.
ويأتي هذا التطور تلبية لوعد الرئيس فلاديمير بوتين في تموز من العام الماضي، ووفق الوزير باتروشيف فإن بلاده شحنت 50 ألف طن لكل من الصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى، و25 ألفا لكل من مالي وبوركينا فاسو وزيمبابوي وإريتريا.
وتفاقمت الأزمة الغذائية في إفريقيا بشكل كبير بسبب التوترات الجيوسياسية والعقوبات الاقتصادية، حيث يواجه ما يقرب من 60% من سكان إفريقيا الآن نقصاً حاداً في الغذاء، وهو الوضع الذي تفاقم بسبب النمو السكاني السريع في القارة الذي يفوق الموارد المتاحة، ويجعلها تعتمد على الواردات الغذائية، ومع تكشف الاستراتيجيات الجيوسياسية، وتدخل روسيا لمساعدة الأمن الغذائي الإفريقي وسط العقوبات الغربية، بات من الضروري إعادة تقييم الأولويات وبذل جهد تعاوني عاجل لمعالجة الأسباب الجذرية لهذه الأزمة، حيث يتوقف مستقبل الأمن الغذائي في إفريقيا على الحلول المستدامة التي تعطي الأولوية للاستثمار في الزراعة، وتعزيز السيادة الغذائية، وانتهاج نهج متوازن لإدارة التغيرات الديموغرافية السريعة في القارة.
عمليا فإنه في تموز 2022 وقعت روسيا وأوكرانيا اتفاقية الحبوب برعاية أممية ووساطة تركية، بهدف ضمان شحن الحبوب الأوكرانية العالقة في الموانئ عبر البحر الأسود، وجرى تمديد الاتفاق الذي يُعرف رسميا باسم “مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب” عدة مرات، وتعود أهمية الاتفاق إلى موقع أوكرانيا في سوق الحبوب العالمي، حيث تعد واحدة من أكبر موردي الحبوب ويعتمد 400 مليون شخص في جميع أنحاء العالم على الحبوب الأوكرانية، وذلك وفقا لأرقام برنامج الغذاء العالمي، لكن الكرملين علق الاتفاق في تموز من عام 2023، وذلك لعدم التوصل مع الجانب الدولي لتطبيق الشروط الروسية، فموسكو اتهمت أوكرانيا باستيراد السلاح تحت غطاء حركة الحبوب للعالم.
وكانت عدة تقارير إعلامية سلطت الضوء منذ بداية تنفيذ اتفاقية الحبوب بأن الشحنات لا تصل إلى الدول الأكثر احتياجا، فالحمولات وفق تلك التقارير كانت “علف حيوانات” في البداية، ولاحقا توجهت شحنات القمح إلى أوروبا، فالجزء الأكبر من صادرات الحبوب الأوكرانية تتجه لتطوير القطاعات الزراعية في الدول الأكثر ثراء.
وخلال المنتدى الاقتصادي في فلاديفوستوك المنعقد في أيلول من العام الماضي، اتهم الرئيس بوتين الغرب بـ “الاستعمار” واقترح إعادة النظر في الاتفاقية التي رفعت الحصار الروسي عن الموانئ الأوكرانية، مما سمح بمرور آمن للسفن، وسلط بوتين الضوء على خلل خطير في تنفيذ هذه الاتفاقية، حيث تم إرسال معظم الحبوب الأوكرانية المصدرة إلى دول الاتحاد الأوروبي بدلاً من الدول الفقيرة التي كان من المفترض مساعدتها، مشيرا الى أن الحبوب المخصصة لأفقر الناس في العالم للتخفيف من أزمة الغذاء لا تصل إليهم، وهو ما ينذر بكارثة إنسانية، وسلط الرئيس بوتين الضوء على سوء تخصيص الموارد بشكل صارخ، حيث لم يصل سوى جزء صغير من شحنات الحبوب الأوكرانية عبر الممر المحدد إلى برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الأمر الذي أدى إلى ترك أزمة الجوع العالمية بلا حل.
وتشير المعلومات إلى أن إنشاء ممر إمداد الحبوب بهدف التخفيف من حدة المجاعة في المناطق المعرضة للخطر، تم توظيفه منذ البداية لدعم الممارسات الزراعية في الدول الأكثر غنى، مثل صناعة تربية الخنازير في إسبانيا، مما يوضح الفشل في تلبية الاحتياجات الملحة لأشد سكان العالم فقراً، بل يثير أيضاً المخاوف بشأن أولويات وآليات توزيع المعونة الغذائية العالمية.
وفي تموز من عام 2023 أكدت روسيا قدرتها على استبدال صادرات الحبوب الأوكرانية إلى إفريقيا، واستعدادها لتوريد حبوب بالمجان إلى 6 دول بالقارة في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر، وأكد الرئيس الروسي للزعماء الأفارقة أنه سيمنحهم عشرات الآلاف من أطنان الحبوب على الرغم من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وهي عقوبات قال إنها تعرقل تصدير الحبوب والأسمدة، وتم في نفس القمة اعتماد خطة عمل منتدى الشراكة الروسي الإفريقي للفترة من 2023 إلى 2026، وجرى خلالها إبرام عدد من الاتفاقيات والعقود والوثائق الأخرى في مختلف مجالات التعاون الروسي الإفريقي.
عمليا فإن الخطوط البديلة لاتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية ظهرت في شهر أيلول من العام الفائت، حيث بدأت مفاوضات بمسعى تركي للتوصل إلى الاتفاق الجديد لنقل الحبوب يستند إلى عاملين أساسيين يشكلان جوهر الاتفاق الموقع مع روسيا، وهما الإشراف التركي الذي يضمن وصول الصادرات إلى الدول الفقيرة، وتمويل قطري لهذه العملية، وتعليقا على هذه المفاوضات بين الرئيس بوتين في قمة مع الرئيس أردوغان في ستوشي العام الماضي استعداد بلاده للعمل مع دولة قطر وتركيا لنقل الحبوب إلى دول إفريقية عديدة، معتبرا المسار القطري – التركي لإيصال الحبوب للدول المحتاجة “آلية إضافية” لمبادرة البحر الأسود، دون أن تكون بديلا لها.
وجدد الرئيس الروسي أيضا، تمسك بلاده بمواقفها حيال اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، مجددا ربط موسكو العودة إليها بتلبية المجتمع الدولي لشروطها، متهما الغرب بـ “الغش”، وحملهم مسؤولية وقف العمل بالاتفاقية، من جانبه أكد الرئيس التركي أن قطر تقدم بالفعل المساعي والمساعدات المالية والتمويل بشكل خاص لعمليات النقل للدول الإفريقية، معربا عن أمله في أن يقوم الرئيس الروسي بالاستجابة السريعة لعملية نقل الحبوب إلى 6 من الدول الإفريقية المحتاجة، وأنه بالإمكان التوصل إلى حلول وسط تتيح إرسال شحنات الحبوب إلى تلك الدول.
رغم كل المبادرات فإن القارة الإفريقية تحتاج إلى أمن غذائي مستدام، وهو الأمر الذي يتطلب من دول الاتحاد الإفريقي إيجاد مسار لعلاقاتها مع الحكومات القادرة على تحييد مسألة الغذاء عن الصراعات السياسية، فالقارة تعاني منذ عقود من آثار الجفاف والصراعات السياسية إضافة لعمليات النهب التي تمت طوال قرن من استنزاف مواردها من الدول التي استعمرتها.
بقلم مازن بلال
الخامس والعشرون من مايو.. يوم إفريقيا للتحرر من الهيمنة الاستعمارية