جاءت مبادرة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بالتنسيق مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبدالحميد دبيبة، لتشكيل لجنتين أمنية وحقوقية، كإجراء يفترض أن يؤسس لمرحلة استقرار في العاصمة طرابلس، لكن الخطوة أظهرت عقبات خطيرة.
بدت المبادرة من حيث الشكل، خطوة تنظيمية، فهناك لجنة أمنية لإخلاء طرابلس من السلاح، ولجنة لمتابعة أوضاع السجون وتحسين بيئة الاحتجاز، والإخفاق يظهر في مضمون المبادرة حيث تكشف هذه الخطوة عن أزمة أعمق تتعلق بالصلاحيات وبالتوازنات وبتسييس مؤسسات الأمن والعدالة، والنتيجة حسب معظم المراقبين هي مبادرة وُلدت في الظلال؛ تحاول إرضاء المؤسسات لكنها تعبث بالسيادة.
أزمة الشرعية
يصرّ المنفي على لعب دور “القائد الأعلى” منفردا، ومستفيدا من تفسير خاص لنصوص الاتفاقات السياسية التي أنتجت المجلس الرئاسي، في المقابل يرد عضو المجلس الرئاسي عبدالله اللافي رافضا هذا التفرد، مشددا على أن هذه الصفة تُمنح للمجلس كجهة اعتبارية وليس لرئيسة، أما رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، فيعود إلى شرعية مجلس النواب باعتباره الهيئة الوحيدة المنتخبة.
ووفق الخلافات التي تظهر على مساحة المشهد السياسي الليبي لا يوجد خلاف على السلاح، بل على من يملك الحق في القرار بخصوص السلاح، وفي الصورة السياسية للغرب الليبي أيضا لا خلاف على القانون، بل على من له سلطة تفسيره وتطبيقه، ومبادرة المنفي تكشف أن التناقضات ليست حول المبدأ، بل حول من يتحكم في تنفيذ المبدأ، وفي ظل هذا التنازع، تتحوّل لجان الأمن والسجون إلى أدوات صراع على النفوذ، لا أدوات لبناء الدولة.
اللجنة الأمنية… إعادة تدوير للميليشيات؟
من أولى الملاحظات الجوهرية أن لجنة الترتيبات الأمنية لا تضم أي تمثيل مستقل من المؤسسة العسكرية النظامية خارج وزارة الداخلية أو الدفاع، بل إن أبرز أعضائها هم ممثلون عن كيانات سبق تصنيفها كميليشيات، لكنها اكتسبت لاحقا شرعية قانونية وصفة رسمية بقرارات تنفيذية من الدولة.
المبادرة لم توضح من هي “الميليشيات غير الشرعية” المقصودة بعملية الخروج من طرابلس، فجميع التشكيلات تقريبا تتلقى تمويلاً من الدولة، وتعمل بأوامر رسمية، وتحظى بـ”شرعية” رسمية، فهل المطلوب هو إخراج الجميع؟ أم إعادة توزيع النفوذ باسم القانون؟ والسؤال الحرج هو إن كانت اللجنة الأمنية تتكوّن من ممثلين عن الكيانات ذاتها التي يُفترض إخراجها، فعن أي تفكيك للمظاهر المسلحة نتحدث؟
اللجنة الحقوقية الواردة في المبادرة، على الرغم من أنها تبدو من حيث الشكل مبادرة نبيلة لترسيخ سيادة القانون ومراقبة السجون؛ أثارت موجة رفض صريحة، فالرئيس السابق للجنة الحريات، محمد العلاقي، عبّر بوضوح عن هذا القلق، واصفا إدخال ممثل بعثة الأمم المتحدة إلى اللجنة بأنه “مساس بالسيادة” وتكريس لـ”عقدة الآخر”.
ومن زاوية قانونية فإن هذا الاعتراض أساسي، فدخول طرف أممي إلى تفاصيل السجون يفتح باب التدويل القضائي، وهو ما تحذر منه بعض الشخصيات السياسية والقانونية، خاصة في ظل الغموض الذي يلف دور البعثة الأممية، وتباين مواقفها بين الدعوة لانتخابات، وتكريس وجود حكومات أمر واقع.
الردع، كأحد أبرز التشكيلات المسلحة في طرابلس، بارك تشكيل اللجنة وأعلن التزامه الكامل بها، لكن هذا الترحيب لا يعني سوى أن اللعبة لا تزال تجري ضمن حدود مقبولة من التوازنات، في المقابل، خرج لواء المرسى بقيادة صلاح بادي، بإعلان حالة النفير حيث اعتبر صلاح بادي نفسه خارج هذه التفاهمات، فهل تستطيع لجنة أمنية بمندوبين من نفس القوى أن تمنع الاصطدام مع بادي؟ لا أحد يراهن على ذلك، وفي أفضل الأحوال، فإن “الاستقرار” المنشود سيكون استقرارا هشا يقوم على التسويات الظرفية، لا على سلطة القانون.
مبادرة الدبيبة.. صراع فوق الطاولة
على الجانب السياسي الآخر، أعلن عبد الحميد دبيبة مبادرة بثلاثة مسارات: إعادة هيكلة الحكومة، وإطلاق مشروع استعلام وطني، وتأمين الانتخابات، وظاهريا يبدو أن الدبيبة يسعى لتكريس الشرعية من بوابة الانتخابات، لكن في عمق مبادرته فإنه يخوض صراع نفوذ مزدوجضد مجلس النواب في الشرق، وضد الميليشيات غير الموالية في الغرب.
وعندما جمّد المنفي قرارات الدبيبة ذات الطابع الأمني والعسكري، بدا ذلك كجزء من صراع سلطات مكشوف، فالدبيبة يريد فرض دولة دون شركاء، والمنفي يريد قيادة دون منافسين، وصراعهما أنهى ما تبقى من التنسيق المؤسسي بين الرئاسي والحكومة.
وما يغيب في كل هذا المشهد هو نية حقيقية لبناء مؤسسة أمنية موحدة، فلا المنفي، ولا الدبيبة يريدان نزع فتيل السلاح، وما يجري هو محاولة لتطويع هذا السلاح في يد السلطة القائمة، سواء سُمّيت حكومة أو مجلسا رئاسيا، واللجان هنا ليست آليات للحل، بل لإعادة ترتيب الاصطفافات، والحديث عن إخلاء طرابلس من المظاهر المسلحة يبدو دعابة سمجة عندما يكون منفذ القرار حليفا لجزء من هذه التشكيلات.
تجدد الاشتباكات بمنطقتي الفرناج وعين زارة جنوب طرابلس الليبية في 9/6/2025 يثبت أن السلام الحقيقي يبقى غائبا، ليس فقط لأن صلاح بادي لا يعترف باللجنة، بل لأن تركيبة المشهد تقوم على تناقض لا يمكن استيعابه، فهو يقوم عبر محاولة فرض شرعية بالسلاح، ومطالبة بإخلاء العاصمة منه.
تُظهر هذه المبادرات أن التحدي في ليبيا لم يعد مرتبطاً بغياب المبادرات، بل بانعدام النية في تنفيذ أي منها خارج حدود المصلحة الضيقة، ومستقبل طرابلس سيظل رهينة لعبة اللجان، لا مخرجاتها.
ما يجري في طرابلس ليس خطة أمنية، بل مراوغة سياسية، ومبادرة المنفي والدبيبة، رغم شعاراتها عن فرض القانون، ليست سوى فصل جديد في مسرحية الحكم بالتحالفات المؤقتة، وأي حديث عن نزع سلاح أو إصلاح قضائي سيكون بلا معنى، طالما أن من يملك القرار هو من يملك الميليشيات، أو يتحالف معها.
اليونان تعتزم افتتاح خط ملاحي مباشر بين أثينا وبنغازي (صور)