منذ عام 2011، انقسمت ليبيا فعلياً إلى مناطق ذات أنماط مختلفة من الإدارة والأمن. فبينما يشهد الشرق الليبي استقراراً أمنياً نسبياً وتقدماً في بعض القطاعات، يعاني الغرب الليبي من فوضى أمنية وتعدد في مراكز النفوذ.
الوضع الأمني والإداري
منذ عام 2014، نجح الشرق الليبي، وخاصة مدينة بنغازي ومناطق برقة عموماً، في استعادة قدر كبير من الأمن، بعد معارك طويلة ضد الجماعات المتطرفة مثل “أنصار الشريعة” وتنظيم “داعش”. ويُعد الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، القوة الرئيسية التي فرضت هذا الاستقرار عبر ضبط الحدود والمنافذ البرية والبحرية، وإخراج الميليشيات غير النظامية من المدن الكبرى، وإعادة بناء جهاز الشرطة والأمن الداخلي، وتأمين المؤسسات الحكومية والمقار الحيوية.
الاستقرار كمحفز للتنمية
شهدت مدن الشرق، مثل بنغازي والبيضاء وطبرق، جهوداً لإعادة الإعمار، وتحسّناً في مستوى الخدمات الأساسية نسبياً، وعودة تدريجية للحياة الاقتصادية والمؤسساتية، مقارنة بباقي البلاد. الاستقرار الأمني مكّن من استئناف بعض المشاريع المتوقفة، وتشجيع المستثمرين المحليين.
ومنذ تحريرها من التنظيمات الإرهابية، وضعت السلطات المحلية خطة متكاملة لإعادة إعمار بنغازي، انطلقت من قلب المدينة القديمة، حيث بدأت أعمال ترميم المباني التاريخية والأسواق الشعبية، مع الحفاظ على طابعها المعماري. كما شملت المشاريع تأهيل شبكة الطرق الرئيسية مثل طريق المطار، وإعادة بناء مرافق حيوية أبرزها مستشفى الجلاء ومركز بنغازي الطبي.
اقتصادياً، يجري العمل على إنشاء منطقة حرة لوجستية في محيط ميناء بنغازي، لتكون مركزاً للتجارة والصناعة في شرق ليبيا. كما أعيد تشغيل مصنع الإسمنت في الهواري، وهو من أبرز المشاريع الإنتاجية لدعم قطاع البناء محلياً. ويشهد ميناء بنغازي أعمال توسعة وتحديث تهدف إلى رفع قدرته التشغيلية وتسهيل حركة الشحن.
وكما تشهد المنطقة مشاريع حيوية في مجال الطاقة، أبرزها إعادة تأهيل محطة شمال بنغازي الكهربائية، إلى جانب مشروع طموح لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية في سلوق وشحات، بالشراكة مع شركات دولية. كما يجري تطوير شبكات التوزيع لتقليل الانقطاعات وتحسين الاستجابة للاستهلاك المتزايد.
وفي مجال التعليم، يشهد القطاع انتعاشاً لافتاً، من خلال مشاريع إنشاء فروع جديدة لجامعة بنغازي في المرج والأبيار، وتوسعة عدد من المعاهد التقنية. كما انطلق مشروع “مدرستي” الذي يشمل بناء وصيانة عشرات المدارس، مع إدخال تحديثات على المناهج لتعزيز مخرجات التعليم وربطها بسوق العمل.
وعلى صعيد الرياضة، لم تُستثنَ رياضة شرق ليبيا من موجة التطوير، حيث تم تأهيل ملعب شهداء بنينا الدولي ليستضيف مجدداً مباريات المنتخب الليبي. ويجري العمل على القرية الرياضية في بنغازي، التي تضم ملاعب تدريب وصالات مغلقة ومرافق للناشئين، بينما تم دعم مقرات أندية عريقة كالنصر والأهلي بنغازي.
العلاقات الدولية والإقليمية
يتمتع الشرق الليبي بعلاقات إقليمية ودولية خاصة، عززها الاستقرار الأمني، حيث تشهد العلاقات مع مصر بناء شراكة قوية أمنياً واقتصادياً، من خلال تبادل مستمر في مجالات التدريب العسكري والتنسيق الحدودي، إلى جانب دعم مشاريع البنية التحتية الليبية بمشاركة شركات مصرية.
وأما مع روسيا، فهناك دعم سياسي وعسكري للجيش الليبي، بالإضافة إلى مشاريع تعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية.
وبالإضافة إلى ذلك، يمتلك الشرقي الليبي علاقات جيدة مع دول الخليج وأبرزها السعودية والإمارات، حيث ساهمت الإمارات في دعم إعادة إعمار بنغازي ومرافقها الصحية والتعليمية.
الاستقرار الأمني في الشرق الليبي لم يكن مجرد إنجاز عسكري، بل بوابة فتحت أمام مشاريع إعادة الإعمار، وجذب الاستثمارات، وتطبيع الحياة اليومية. العلاقات الدولية الداعمة، سواء مع دول الجوار أو القوى العالمية، أسهمت في تسريع هذه العملية. ومع ذلك، فإن تحقيق التنمية الكاملة يبقى مرهونًا بالحل السياسي الشامل الذي ينهي الانقسام بين الشرق والغرب ويُعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس موحدة.
الغرب الليبي: فلتان أمني ومعاناة مزمنة
منذ 2011، يعاني الغرب الليبي، وخاصة العاصمة طرابلس ومحيطها، من فوضى أمنية مستمرة، تتسم بوجود عشرات الفصائل المسلحة المتنافسة، بعضها يزعم الانتماء لوزارات الداخلية أو الدفاع، لكنها فعلياً تعمل وفق مصالحها الذاتية، ما أدى إلى غياب جهاز أمني موحّد، إلى جانب دعم خارجي متباين للفصائل المسلحة يساهم في تغيير موازين القوى باستمرار.
وتشهد المناطق التي تتواجد فيها تلك الفصائل اشتباكات دورية داخل المناطق السكنية، غالباً بسبب صراع على النفوذ أو الموارد، بالإضافة إلى انتشار حالات اختطاف وابتزاز وتهديد ضد مواطنين ورجال أعمال وصحفيين، مع الاستمرار في عمليات اقتحام مقار حكومية ومراكز حيوية مثل الوزارات والمطارات من قبل مجموعات مسلحة لتحقيق مطالب بالقوة.
وآخر التوترات التي شهدها وفي الغرب الليبي ومازالت مستمرة، وقوع اشتباكات بين “جهاز دعم الاستقرار” و”قوة الردع الخاصة” في العاصمة طرابلس، وتوترات دموية بين ميليشيات الزاوية، والزنتان، ومصراتة حول مناطق النفوذ.
وأدت مسببات الفتان الأمني في الغرب الليبي إلى تردي الوضع الأمني والمعيشي، حث يعاني المواطن الليبي في تلك المناطق من الخوف الدائم نتيجة انعدام الأمان، حيث انعكس على عملية دوران عجلة الاقتصاد وتراجعها بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
ومن النتائج المترتبة على الفتان الأمني، ضعف مؤسسات الدولة، حيث يعين الوزراء وبعض المسؤولين بناء على ضغوط من الفصائل المسلحة، بالإضافة إلى تعطل مستمر للمؤسسات القضائية والعدلية نتيجة التهديدات.
تعثر المشاريع التنموية
يعاني الغرب الليبي من شبه انعدام في توفر فرص الاستثمارات الاقتصادية، وذلك نتيجة غياب بيئية آمنة للاستثمار، الأمر الذي أدى إلى انسحاب العديد من الشركات الأجنبية.
وبالنتيجة، فإن الغرب الليبي يعيش واقعاً أمنياً هشاً يُعرقل كل محاولات الاستقرار والتنمية. في المقابل، يدفع المواطن ثمن هذه الفوضى يومياً، في لقمة عيشه وأمانه وتعليم أطفاله. معالجة هذه الحالة تتطلب إرادة سياسية وطنية حقيقية، تتجاوز الحسابات الضيقة نحو مصلحة الشعب الليبي كله.
و في الختام، الوضع في ليبيا يعكس صراعاً بين نموذجين: نموذج أمني منضبط نسبياً في الشرق، وآخر غارق في الفوضى بالغرب. وبينما يحقق الاستقرار في الشرق بعض مظاهر التقدم، يبقى مستقبل ليبيا مرهوناً بقدرة أبنائها على تجاوز الانقسام، وبناء دولة ترتكز على القانون، لا على السلاح.
خاص وكالة أخبار شمال إفريقيا
ليبيا.. توتر أمني في طرابلس بعد اشتباكات مسلحة في منطقة السياحية