شكلت العلاقة بين فرنسا والمغرب العربي مشهداً جيوسياسياً خاصاً بالنسبة للشمال الإفريقي، حيث تمثل الطموحات الفرنسية مع كل من الجزائر والمغرب تحدياً لخلق توازن دبلوماسي.
وما بين الصراعات الإقليمية والتوترات السياسية المستمرة بين المغرب والجزائر من جهة، وفرنسا التي تربطها جملة أزمات مع الدولتين، وفي الوقت الذي تم فيه الإعلان عن زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس بين نهاية سبتمبر وبداية أكتوبر بعد تأجيلها عدة مرات، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجدد المساعي الفرنسية للحفاظ على بوابة إفريقية واسعة بعد انتكاسات حادة في التواجد الفرنسي في عدد من دول شمال أفريقيا.
مساحة فرنسا الدبلوماسية
يؤكد الإعلان عن زيارة الرئيس تبون إلى فرنسا في الخريف على رسالة واضحة من ماكرون؛ جوهرها أن تعزيز العلاقات مع الرباط لا يعني أبدا الابتعاد عن الجزائر، وخلق شراكة بين دولتي شمال إفريقيا دون تفضيل أحدهما على الآخر. فبداية تم تعيين وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه لرسم سياق جديد في العلاقات الفرنسية المغربية، وذلك بعد سنوات من الاحتكاكات الدبلوماسية والتناقضات في ترتيب العلاقة مع المغرب العربي عموماً، فالقاعدة التي أرساها سيجورنية هي التعامل مع العلاقات المعقدة والمثيرة للجدل في بعض الأحيان مع كل من الجزائر والمغرب.
ورغم الجهود الفرنسية فإن مساحتها الدبلوماسية في الشمال الإفريقي ما زالت موضع تهديد، ونجاحها في خلق توازن في علاقاتها مع هذه المنطقة المتوترة يبقى موضع شك، فالسنوات الماضية رسمت خيارات معقدة بالنسبة لباريس وذلك في ظل توتر طال القارة الأوروبية نتيجة الحرب الأوكرانية، ويبدو أن التعامل المتزامن مع الجزائر والمغرب لم يعد خياراً دبلوماسياً، بل هو ضرورة بالنسبة لفرنسا، حيث تفرض تعقيدات الشرق الأوسط، والتحديات في منطقة الساحل الإفريقي نهجاً متوازناً وعملياً، وضرورة لربط التحديات المتبادلة بين فرنسا والجزائر والمغرب.
ضغوط فرنسية داخلية
وتأثرت طريق ماكرون نحو دبلوماسية متوازنة في المغرب العربي بمسائل فرنسية داخلية، حيث دعا سياسيون وبرلمانيون إضافة للرئيس السابق نيكولا ساركوزي إلى تنشيط العلاقات مع الرباط، في وقت برز المغرب كشريك أكثر موثوقية بالنسبة لفرنسا؛ مقارنة بالتحالفات المتقلبة مع الجزائر التي تملك توترات مع شركاء فرنسا وخصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما وجه التركيز على الأهمية الاستراتيجية للمغرب في السياسة الخارجية الفرنسية.
ويواجه الرئيس ماكرون منتقديه بوضع الخلافات الفرنسية مع الرباط في الواجهة، ويرسم مساراً مختلفاً يضع قضية الصحراء الغربية كنقطة خلافية بين الجزائر والمغرب في عمق دوره بين البلدين، حيث يبدو كطرف ثالث يملك تناقضاته الخاصة مع البلدين.
وتسعى الدبلوماسية الفرنسية في إشراك كل من الجزائر والمغرب في معادلة ثلاثية الأبعاد معزولة عن الأزمات الأخرى وخصوصاً الموضوع الفلسطيني، فبالنسبة لماكرون هناك ضرورة استراتيجية للحفاظ على علاقات متوازنة مع كلا البلدين رغم الاعتراضات الداخلية والخسارات الفرنسية لمواقعها الإفريقية.
توازن العلاقة مع الجزائر
توضح زيارة تبون إلى فرنسا صورة واضحة للمحاولات الفرنسية من أجل خلق توازن دبلوماسي مع الشمال الإفريقي، حيث كان من المقرر أن تتم الزيارة في أوائل مايو 2023، وتم تأجيلها عدة مرات لأسباب مختلفة، منها مظاهرات شهر مايو ضد إصلاح نظام التقاعد في فرنسا، وخلافات بين البلدين حول قضايا مثل التنقل والتعاون الاقتصادي، إضافةً لتصفية الإرث التاريخي مثل التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، وجاء التأجيل الأخير في وقت حساس قبل الانتخابات الرئاسية في الجزائر، مما يضيف مزيداً من التعقيد إلى السياق الدبلوماسي.
وحاولت فرنسا اختراق كل تعقيدات علاقاتها مع الجزائر، وقام الرئيس ماكرون بزيارة الجزائر في صيف 2022، التي جاءت لطي صفحة التوترات التي بلغت ذروتها باستدعاء السفير الجزائري في أكتوبر 2021 بعد تصريحات ماكرون حول النظام “السياسي العسكري” الجزائري، وأكد الرئيس الجزائري حينها على أهمية الزيارة في إطلاق ديناميكية جديدة للتقدم في معالجة الملفات الكبرى.
وكانت الزيارة بالنسبة لماكرون محاطة بخلفية اقتصادية متشابكة، ففرنسا ومنذ عام 2022 غدت الشريك التجاري الثاني للجزائر، وتعد أول مستثمر خارج قطاع المحروقات في الجزائر، واستطاعت فرنسا الحفاظ على مكانتها كثاني أكبر مورد للجزائر بحصة سوقية بلغت 10.6%، متقدمة على دول مثل إيطاليا وألمانيا، بينما بلغت الاستثمارات المباشرة الأجنبية الفرنسية في الجزائر 93 مليون يورو في عام 2020.
ويتم النظر إلى زيارة تبون المقبلة على أنها فرصة لوضع الخلافات بين البلدين ضمن دائرة جديدة، ومحاولة تجاوزها، حيث يشير الإليزيه إلى ضرورة تعزيز التعاون في كافة المجالات، وتبدو هناك رغبة من الجانبين في استعادة ديناميكية إيجابية تسمح بتجاوز الصعوبات السابقة وتحقيق تقدم في القضايا العالقة.
وفي مشهد بانورامي، فإن فرنسا تريد جمع كل التناقضات عبر تحسين علاقاتها مع الجزائر والمغرب بشكل متزامن، وهي مقاربة تظهر ضمن سياق دولي خطر، حيث يرى الرئيس ماكرون أن تنشيط العلاقات مع الرباط يتطلب بالضرورة تطوير العلاقة مع الجزائر، فترابط العلاقات الفرنسية مع كلا الدولتين يمكن جعله ضمن مسارين منفصلين، ويخلق هذا الأمر هامشاً يمكن استخدامه لتخفيض التوتر الإقليمي.
بقلم نضال الخضري
بوتين يصادق على اتفاقية تسليم المجرمين بين روسيا والجزائر