12 مايو 2025

إقالة وزير الصحة الليبي، رمضان أبو جناح، تعكس تعقيدات الواقع السياسي وتتجاوز مسألة الفساد الإداري، وقرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، بإقالته يحمل معه طابعاً عن الواقع المأزوم بالغرب الليبي.

الوزير المقال يشغل منصباً إضافياً فهو نائب رئيس الوزراء، وإحالته مع مسؤولين من الوزارة إلى التحقيق، على خلفية استيراد أدوية سرطان من العراق دون الرجوع إلى الهيئة الوطنية لمكافحة السرطان؛ يبدو ظاهرياً، امتداداً لنمط مألوف من تجاوزات إدارية في بلد يعاني من هشاشة مؤسساتية، لكن خلف الكواليس، تشير المؤشرات إلى صراع نفوذ داخل أجهزة الدولة وتضارب مصالح يتعدى “عدم الالتزام بالإجراءات القانونية”.

عملياً أمرت النيابة العامة الليبية، يوم الأربعاء 7 مايو 2025، بحبس وزير الصحة و4 مسؤولين على ذمة التحقيق، والبيان الصادر عن مكتب النائب العام أشار إلى أن المتهمين خالفوا الضوابط الحاكمة لشراء الأدوية وتجاوزوا القواعد التنظيمية من مختلف النواحي، وشمل القرار حبس مدير إدارة الصيدلة، ورئيس لجنة العطاء العام، ومسؤول لجنة العطاءات المركزية، ومفوض إحدى شركات الاستيراد.

في المقابل، شدد النائب العام الليبي، المستشار الصديق الصور، على التزام النيابة العامة باتخاذ الإجراءات بحق كل من يثبت تورطه، مشيراً إلى أهمية حماية صحة المواطنين من أي تلاعب أو تجاوز إداري.

من هو رمضان أبو جناح؟

رمضان أبو جناح ليس مجرد وزير صحة تم تعيينه بالصدفة، فهو دخل إلى المشهد التنفيذي كنائب لرئيس الحكومة عن الجنوب الليبي، وهي منطقة تشهد تهميشاً سياسياً مزمناً، وبعد فضيحة سلفه في وزارة الصحة عام 2022، تم تكليفه بتسيير الوزارة في محاولة لترميم صورة الحكومة، لكن على ما يبدو، كانت المهمة أكبر من مجرد إدارة وزارة تقنية.

جوهر الأزمة يتعلق بتعاقد وزارة الصحة الليبية مع شركة ليبية لاستيراد دواء لعلاج الأورام من مصنع عراقي، وهذا المصنع، وفق وزارة الصحة، مسجل قانونياً لدى إدارة الصيدلة، وتمت زيارته ميدانياً، وحاز على موافقة مبدئية من هيئة الرقابة الإدارية، لكن الهيئة الوطنية لمكافحة السرطان نفت علمها أو مشاركتها في القرار، ما شكل خرقاً قانونياً للقرار رقم 963 لسنة 2022 الذي يحصر صلاحية الموافقة على أدوية الأورام بهذه الهيئة.

ويظهر هنا التعارض بين المسارات القانونية والممارسة الواقعية في حكومة تسيرها الأزمات أكثر مما تسيرها السياسات، وزاد تعقيد أزمة الأدوية أن الشحنة لم تدخل البلاد بعد، ولم يُدفع أي مبلغ مقابلها، حسب تصريح أبو جناح، ما يفتح باب التساؤلات حول مدى جدية التهم أم أنه أقرب لتصفية حسابات داخلية.

لماذا العراق بالذات؟

الدوافع وراء اختيار العراق كمصدر للدواء لا تخلو من دلالات سياسية، وما آثار الأسئلة بأن الصفقة وفق بعض التحليلات بأنها “بزنس مع العراق”، وهي الدولة التي تنافس ليبيا في الفساد، فأولويات وزير الصحة حسب نفس التحليلات لم تكن منصبة على جودة الدواء بقدر ما كانت على مصالح غير واضحة.

أما رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة السرطان حيدر السائح فأوضح أن الهيئة “لا تتعامل إلا مع شركات أوروبية وأمريكية”، وذلك في تلميح ضمني لشكوك في كفاءة الدواء العراقي أو ربما في نظافة الصفقة، في المقابل، اعتبر السفير العراقي في طرابلس أن هذه الخطوة تعكس “تعاوناً ثنائياً في القطاع الصحي”.

وما بين التشكيك والتبرير، لا يمكن تجاهل أن الصفقة تمت، أو على الأقل بدأت، بتنسيق مباشر من رئاسة الحكومة، وهو ما يثير علامات الاستفهام حول علاقة الدبيبة بهذه الصفقة، خاصة في ظل اتهامات سابقة له بالتدخل في ملفات مشتريات صحية وعلاقات مشبوهة برجال أعمال في العراق.

الدبيبة ينأى بنفسه… أم يُضحّي؟

يبدو أن رئيس الحكومة بإقالته أبو جناح، يسعى لاحتواء الغضب الشعبي وإظهار الحزم، لكن خلف هذا القرار تتخفى ديناميكيات أكثر تعقيداً، فهذه ليست المرة الأولى التي يُقال فيها وزير صحة في حكومة الدبيبة على خلفية فساد، ففي ديسمبر 2022، تمت إقالة الوزير السابق علي الزناتي إثر اتهامات مشابهة قبل أن تبرئه المحكمة لاحقاً، ما يعكس نمطاً متكرر من الإقالات الوقائية التي تخلط بين القانون والسياسة.

هل ضحّى الدبيبة بأبو جناح لحماية نفسه؟ هذا احتمال واقعي في ظل تكرار سيناريوهات الإقالة دون استكمال التحقيقات بشكل شفاف أو نشر نتائجها، فالمشهد السياسي في الغرب الليبي يفتقر إلى قنوات مساءلة مستقلة، ما يجعل كل قرار ذا طابع قضائي عرضة للتوظيف السياسي.

سياق أوسع من وزارة الصحة

لا يمكن فهم حدث الإقالة والسجن بمعزل عن واقع الانقسام المؤسساتي الذي تعيشه ليبيا، فحكومة الدبيبة التي تأسست بموجب اتفاق سياسي أممي لم تعد تحظى بشرعية موحدة، وتواجه تحديات متزايدة من الحكومة المكلفة من قبل مجلس النواب، ووسط هذا الانقسام، تُستخدم ملفات الفساد والفساد المضاد كورقة ضغط وتصفية سياسية.

إن الأزمة الأخيرة في وزارة الصحة تُظهر خللا ًمزدوجاً، وغياب التنسيق المؤسساتي من جهة، واستغلال مواقع السلطة لتحقيق مصالح أو تصفية حسابات من جهة أخرى، والمفارقة أن وزارة الصحة لا تزال تصر على أن إجراءات التوريد تمت وفق الضوابط القانونية، وأن الدواء المستورد يخضع لمعايير السلامة الدولية، كما أنها أكدت أن العقود أبرمت لتعويض “فواقد العطاء العام”، وهي ثغرة قانونية تسمح بالشراء خارج القوائم الرسمية، ولتفادي البيروقراطية التي تعطل وصول الأدوية إلى المرضى.

إن تفاصيل قضية السجن والإقالة تجعل من الملف قنبلة سياسية أكثر منه قضية فساد تقليدية، فإذا ثبت أن العقد تم بموافقة هيئة الرقابة الإدارية، فما هي صلاحية الدبيبة لإلغاء القرار بعد تنفيذه؟ وإذا ثبتت مخالفة القانون، فهل ستمتد التحقيقات لتطال رئاسة الحكومة؟

رمضان أبو جناح، كنائب عن الجنوب، ربما دفع ثمناً مزدوجاً، فوصوله إلى وزارة الصحة لم يكن برغبة ذاتية، بل لسد فراغ خلفه سلفه المُقال، وإقالته الآن تبدو كأنها محاولة لغلق ملف شائك دون المساس برؤوس أكبر، وفي بلد ممزق تتنازعه مراكز نفوذ متداخلة، يبدو سجن وإقالة وزير الصحة وكأنها “حركة شطرنج” أكثر مما هي تصحيح مسار إداري.

بقلم نضال الخضري

الأمم المتحدة تحيي إرث خديجة الجهمي في يوم المرأة الليبية

اقرأ المزيد